الحراك الشعبي والموقف من الشمولية الجديدة في مصر وتونس

يتواصل التفاعل في الشارع العربي، وبخاصة في دول (ثورات الربيع) (مصر، تونس، ليبيا.. إلخ) التي سقطت أنظمتها وقياداتها الرسمية السابقة بأساليب وطرق مختلفة. ويؤشر إلى الموقف الشعبي تجاه هذه الأنظمة (الجديدة) القائمة في هذه الدول، ونهجها وسياساتها عموماً، وخاصة الداخلية منها على أهميتها. كما تؤكد هذه التفاعلات حجم التباينات والتناقضات الجارية بين الحركة الشعبية الراهنة بمختلف مكوناتها واتجاهاتها من جهة، وبين التركيبة القيادية – الرسمية التي جاءت إلى السلطة في هذه الدول من جهة أخرى.

ففي الوقت الذي لاتزال فيه ليبيا تعيش مرحلة ترتيب (نظامها) الإداري- السياسي وتداعياته، فإن هذا التركيب القيادي – الرسمي قد اتضحت معالمه في مصر وتونس، وتالياً تبعاته وموقف الشارع وقواه من هذا البناء الفوقي الجديد وتوجُّهاته.

إذ تشهد تونس ومصر منذ أسابيع ما بعد سقوط نظامي هاتين الدولتين، تفاعلات شعبية – حزبية هامة، تؤشر إلى طبيعة التطورات الجارية فيهما، وآفاقها القريبة القادمة.

ففي الوقت الذي أفرز فيه هذا (التغيير) تحالفاً ثلاثياً غير متوقَّعٍ في تونس بقيادة حزب النهضة الإسلاموي (الإخواني)، ظهرت تبايناته إلى العلن وسريعاً، بعد أسابيع من تقاسمه السلطات الرئاسية والحكومية والتشريعية من جهة، واستمرار الاحتجاجات الشعبية في مختلف المدن الرئيسية التونسية من جهة ثانية. وتؤكد هذه التباينات وهذه الاحتجاجات استحالة تماسك هذه التركيبة الفوقية الراهنة (المؤقتة) في تونس، وتالياً استمرار التفاعلات في الشارع التونسي بقواه وأحزابه، وبخاصة ما بين القيادات والتيارات العلمانية والإسلاموية على اختلافها، وبأن الحالة القائمة حبلى بتطورات جارية وقادمة، سيحدد ماهيتها الشارع التونسي بقواه وأحزابه، وستبقى تونس بتوجهها الداخلي والخارجي مفتوحة على كل الاحتمالات.

في الوقت الذي تظهر فيه الحالة المصرية لوحة أكثر وضوحاً، عنوانها انفراد حركة الإخوان المسلمين بتعبيراتها السياسية، بالسلطات الرئاسية والتنفيذية والهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، ومجلس الشورى.. إلخ، وصولاً إلى محاولة قوننة دستور مصري جديد، انفرد الإخوان المسلمون بصياغته، بعد أن قاطعت اجتماعات صياغته الأولية كل القوى المصرية على اختلاف توجهاتها، ويلقى معارضة واسعة من التيار السلفي المتشدد ممثلاً ب(حزب النور) الساعي إلى دستور أكثر إسلاموية من جهة، ومن القوى الليبرالية والديمقراطية والعلمانية المطالبة بدستور مصري وطني توافق عليه كل القوى والاتجاهات من جهة ثانية.

وأدت هذه التباينات والتناقضات إلى عودة الخلاف في الشارع المصري، واستعادة ميدان التحرير (مهد الثورة المصرية ورمزها) موقعه في صدارة الأحداث مرة أخرى، رداً على محاولات حركة الإخوان مواصلة انفرادها بكامل السلطات المصرية وبضمنها سلطتا القضاء والمحكمة الدستورية، التي عارضت توجهات الحركة والرئيس المصري (الإخواني) محمد مرسي. كما أظهرت حجم الخلاف بين مجموع حركة الشارع وبخاصة قواه الليبرالية والعلمانية واليسارية والديمقراطية الرافضة ل(أخونة) مصر وسلطاتها من جهة، وبين الاتجاه الساعي إلى سلطة شمولية جديدة إسلاموية من جهة ثانية.

وبسبب من مخاطر هذا التوجه الشمولي الإسلاموي الذي يقوده الرئيس المصري مرسي، فقد تداعت القوى والأحزاب والحركات المصرية التي بادرت وساهمت بفعالية في التغيير المصري، قبل أن تلتحق (متأخرة) به حركة الإخوان المسلمين، إلى التظاهر والعودة إلى الشارع ليقرر موقفه من محاولة تجسيد نظام شمولي إسلاموي. وعاد ميدان التحرير ليتصدر غيره من التحركات الرافضة لهذه (الأخونة) وللإعلان الدستوري، بصيغته الشمولية التي توسع من صلاحيات الرئيس الإخواني، والذي تريد حركة الإخوان، والرئيس، قوننته من خلال (استفتاء شعبي).

وتتواصل هذه الحركة الاحتجاجية ضد هذا التوجه الشمولي- الإسلاموي التي باتت تجمع وتوحد القوى والحركات الأخرى الرافضة للأخونة والشمولية، والتي ضمت في تظاهراتها الأخيرة رموز هذه القوى (المرشحين السابقين للانتخابات الرئاسية حمدين صباحي، محمد البرادعي، عمرو موسى وغيرهم)، وصولاً إلى الاعتصام الشعبي الدائم والعصيان المدني. هذه الحركة التي تؤكد شعاراتها موقف قواها، وتخوف الشارع من الفرعنة والأخونة ونظام الإسلام السياسي، وشطب الدولة والقانون والعدالة لصالح نظام المرشد والفرعون. وتؤكد أيضاً أن الرئيس الإخواني لم يعد ينصت لقضاة مصر والمحكمة الدستورية القائمة، وإلى صوت الشارع وقواه الحية، وتالياً رغباته وتطلعاته نحو نظام ديمقراطي شعبي لكل المصريين، وبالتالي الالتفاف على موقف المحكمة الدستورية، التي قررت عدم شرعية الانتخابات البرلمانية، والتي ترفض، ومعها الحركة الاحتجاجية التي تحتل منذ أسابيع (ميدان التحرير)، إقرار دستور ديكتاتوري يعود بمصر إلى الوراء، وترفض نظام الحاكم – الفرد، وتطالب بتوازن السلطات والفصل بينها، وتحجيم سلطات رئيس الجمهورية.

هذه التفاعلات الجماهيرية الحزبية، الثقافية، القضائية.. إلخ، الآخذة في الاتساع والرافضة للنظام الشمولي الأسلاموي ولمشروع الإعلان الدستوري (الرئاسي- الإخواني)، باتت تجمع وتوحد تدريجياً الغالبية الساحقة من القوى والرموز الرافضة لهذا الإعلان الدستوري ولنظام (الرئيس- (النبي)- الفرعون)، والتي تدرك مخاطر هذه القوننة والشرعنة للتوجه الشمولي الإخواني الجاري في مصر ومحاولة تجسيده وتكريسه. وتشير هذه التفاعلات الجارية إلى فرز جديد في الحالة المصرية بين قوى ورموز تطالب وتعمل من أجل مصر لكل المصريين، وبين اتجاه شمولي- إسلاموي جديد يدخل مصر في صراع عنوانه (إما مصر إلى الأمام والتغيير والديمقراطية الحقيقية، وإما تكريس نظام المرشد والأخونة والانفراد).

إن موعد الاستفتاء على الإعلان الدستوري (الإخواني) المقرر، وحسب خطاب الرئيس مرسي في 15 كانون الأول سيشكل محطة مفصلية في حركة الشارع المصري ومستقبله، ويظهر حقيقة توجهات (الربيع العربي) في كل دولة وفق (خصوصياتها)، وتالياً بناء أنظمة شمولية- إسلاموية جديدة في إطار شرق أوسط جديد، دعت إليه وعملت من أجل إنجازه الإدارات الأمريكية، يفتح الباب واسعاً أمام صراع اجتماعي – طبقي- سياسي يحدد الموقف من (التغيير) المؤقت الجاري، وكيفية الوصول إلى تغيير ديمقراطي دائم ومستمر وسلمي يلبي تطلعات الشارع بمختلف قواه وتوجهاته غير السلفية.

العدد 1104 - 24/4/2024