إنجاز كبير… واستحقاقات مطلوبة.. فلسطين «دولة غير عضو» في الأمم المتحدة

فازت فلسطين في تغيير وضع الممثلية الفلسطينية من (كيان مراقب) إلى (دولة مراقبة غير عضو) في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم تنجح الولايات المتحدة وإسرائيل في إفساد هذا الإنجاز الذي نال 138 صوتاً مؤيداً و9 ضد و41 ممتنعاً.

الفوز الأهم لفلسطين سيكون في الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، واللجوء إليها للنظر والبت في الأعمال والانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة ومدينة القدس. وفي أول تحذير لوّح به رياض منصور، المراقب الدائم لفلسطين لدى الأمم المتحدة قال: (إذا لم تحترم السلطات الإسرائيلية قرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية ومضت في البناء غير المشروع للمستوطنات الذي يعدّ من جرائم الحرب في نظر المحكمة الجنائية الدولية، ومعاهدة روما، عند ذاك سنتشاور مع أصدقائنا لإيجاد السبيل لإرغام إسرائيل على الالتزام بها).

من الواضح أن هذا الفوز عزز النهج الوحدوي لدى فصائل العمل الوطني الفلسطيني وعُدَّ مدخلاً نحو إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة وإعادة الوحدة واللحمة لشطري الوطن، وإعادة ترتيب الأوراق بما يصب في حماية المشروع الوطني، والتصدي لغطرسة الاحتلال وعدوانه، خاصة في ضوء تصاعد عمليات الاستيطان والتهويد في الضفة الغربية والقدس التي ظهرت في أول ردة فعل على قبول فلسطين دولة غير عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

لقد جاء هذا الفوز أشبه برافعة لإنهاء الانقسام والمصالحة، الأمر الذي يملي سرعة العمل من أجل دعوة اللجنة العليا لقيادة (م. ت. ف) للاجتماع، تلك اللجنة التي تشكلت بناء على اتفاق المصالحة الموقّع في القاهرة بين جميع الفصائل، وبضمنها حركتا حماس والجهاد، المعنية بالمشروع في تحقيق مصالحة عاجلة تنهي كل ذيول الانقسام وتجعل الكل الفلسطيني موحداً خلف قضاياه المصيرية، سواء في المحافل الدولية، أم في إدارة الشأن الداخلي بشراكة حقيقية تتجاوز أخطاء الماضي.

 

تصعيد على عدة جبهات

استقبل الفلسطينيون الإنجاز الدبلوماسي الجديد المتمثل برفع وضع عضوية إلى (دولة غير عضو)، باحتفالات جماهيرية شملت جميع مدن وقرى ومخيمات الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، وسط تصعيد إسرائيل استيطاني وعسكري، وميل أمريكي إلى إدارة الصراع بدلاً من حله. وقد حسمت القيادة الفلسطينية الجدل في شأن (الخيارات). فأعلن الرئيس الفلسطيني أن أمام السلطة الفلسطينية أربعة (مسارات) تشكل إطاراً للتحرك الفلسطيني بعد 29/11/،2012 يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، ويوم إعلان (الدولة غير العضو) في الأمم المتحدة. وتبدأ بالعودة إلى المفاوضات وفق استراتيجية تفاوض جديدة، والمطالبة بوضع الأراضي الفلسطينية تحت الوصاية الدولية، وتجميد العمل باتفاقية أوسلو، بحجة فقدانها سبب وجودها، مادام أي تقدم في التسوية النهائية لم يحدث، وتحميل إسرائيل مسؤولياتها كاملة كقوة محتلة، وصولاً إلى (حل السلطة) في حال إخفاق ما سبق!

عكست رزمة (الخيارات) هذه نهجاً جديداً على مستوى القيادة الفلسطينية، تحت وقع الشعور بالإحباط من الرهان على تغيير في السياسة الأمريكية يسمح بتحقيق اختراق في العملية السياسية السلمية، طوال ما يزيد على أربعة أعوام من السياسة الفلسطينية – العربية ذات الطابع الانتظاري للخطوة الأمريكية المقبلة، منذ انتخاب أوباما رئيساً للإدارة الأمريكية في تشرين الثاني ،2008 حتى إعلان فوز الجمهوريين بأغلبية مقاعد مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي، وصولاً إلى تصويت الولايات المتحدة ضد رفع عضوية فلسطين في الأمم المتحدة في 29/11/،2012 وتخليها عن مساعيها لـ(إقناع) حكومة نتنياهو- ليبرمان بتجميد الاستيطان، وطرحها فكرة المفاوضات المباشرة فقط.

لكن الأهم أن الخيارات الفلسطينية، لم تكن كلها خيارات أو بدائل من السياسة الرسمية المعتمدة على المبدأ الشهير (مالا يأتي بالتفاوض يأتي بمزيد من التفاوض)! وإنما انطوت على خلط بين مبادرات وتحركات دبلوماسية وقرارات جذرية ربما تعكس تحولاً نحو استراتيجيا بديلة على غرار تعليق تطبيق الاتفاقية المبرمة مع إسرائيل، أو حتى وضع الأراضي الفلسطينية تحت الوصاية الدولية.. كل ذلك يراوح في مربع الرهان على إعادة بناء خيار التفاوض وفق شروط محسنة للمفاوض الفلسطيني، على الرغم من أن تطبيقها لا يمكن إلا على أنقاض هذا الخيار.

والأمر الذي أثار المزيد من الجدل هو أن بعض التحركات الدبلوماسية على المستوى الدولي، والتي تم تبنيها، كرفع وضع عضوية فلسين إلى (دولة غير عضو)، أو السعي لاستصدار قرار من مجلس الأمن بعدم شرعية الاستيطان، طرح بطريقة توحي بتعارض هذه (الخيارات) مع المفاوضات، أو كبديل عنها، بينما يطرح التساؤل البسيط: ألم يكن ممكناً الإقدام أصلاً على مثل هذه الخطوات الدبلوماسية حتى في ظل المفاوضات؟ لماذا لم تتضمن (استراتيجيا التفاوض) خطوات لتعزيز موقع المفاوض الفلسطيني ولاختبار نوايا (الراعي الأمريكي). مثال: التوجه إلى الأمم المتحدة بمشاريع قرارات بشأن عدم شرعية الاستيطان والتهويد وهدم المنازل، بل حتى تحديد قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة كمرجعية للعملية السياسية؟

ثمة أسباب حالت دون ذلك خلال أعوام التفاوض العجاف، وهي لا تختلف في جوهرها عن أسباب (ترحيل) بعض الخطوات إلى ما بعد 29/11/2012. فالرهان على عملية تفاوضية تضع البيض كله في السلة الأمريكية، لا يستقيم مع الإقدام على خطوات سياسية تنطوي على مجابهة دبلوماسية مع الإدارة الأمريكية في المحافل الدولية. واليوم فإن غياب الرغبة والجهوزية المستندة إلى استراتيجيا وطنية بديلة، من أجل خوض مثل هذه المجابهة الدبلوماسية بما يترتب عليها من ضغوط على السلطة الفلسطينية، فضلاً عن ردات الفعل الإسرائيلية المتصاعدة، إنما يفضي إلى تبني تحرك سياسي وكفاحي فلسطيني بأقل الخسائر الممكنة، وينطوي على رسالة واضحة قوامها الرهان على إعادة بناء البديل الوطني (مصالحة، مقاومة، مفاوضات) رسالة موجهة أساساً إلى إدارة أوباما رداً على رسالة نقلت إلى القيادة الفلسطينية، وتضمنت (لاءات) أمريكية حاسمة ضد تبني أي سياسة، ربما ترقى إلى مستوى خيارات أو خطوات. مثال: إعلان الدولة من طرف واحد، أو تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، أو حتى حل السلطة، من دون الخضوع لشروط الرباعية الدولية.

وجاء طرح الخيارات البديلة سبيلاً للنزول من قمة الشجرة التي صعد إليها الرئيس الفلسطيني أبو مازن، وليعكس انعطافة مدعومة بموقف أممي تجسد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29/11/،2012 رغم الغضب الأمريكي والابتزاز الإسرائيلي، وتبعية بعض الدول الأوربية للسياسة الأمريكية في ملف الصراع العربي- الإسرائيلي. لكن الخيارات البديلة تعني أيضاً (تشذيب) السياسة الرسمية العربية بفصل المبادرات عن (الخيارات) أو الخضوع للضغوط، وترحيل البدائل إلى ما بعد 29/11/2012.

 

بناء موقف وطني موحد

لم يعد مفهوماً ولا مستساغاً إعطاء الإدارة الأمريكية المزيد من الوقت المستقطع من أجل مواصلة حراكها السياسي لإدارة الصراع من دون حله، وقبل ذلك أهمية التوقف عن إعطاء حكومة نتيناهو – ليبرمان أكثر مما تحتاج إليه من وقت لاستكمال سحب المزيد من الجغرافيا من تحت أقدام الفلسطينيين والعرب بقوة الاستيطان والتهويد والأسرلة، والاستمرار في بناء خيارات عسكرية عدوانية، ربما تطول أكثر من جهة في الشرق الأوسط، بعد عملية (عمود السحاب) الهمجية على قطاع غزة، بالاستفادة من الغطاء السياسي والدبلوماسي الأمريكي، في ظل الرهان على استئناف المفاوضات (يوماً ما)، بعيداً عن ممارسة المجتمع الدولي الضغط العملي المطلوب على دولة الاحتلال.

إن التحرك الدبلوماسي الفلسطيني وفق مبدأ (الخيارات)، يعني عملياً تبني استراتيجيا وطنية جدية بديلة من استمرار الرهان على إعادة بناء خيار المفاوضات فحسب، والتي ينبغي أن يشكل الهجوم الدبلوماسي أحد مكوناتها، إلى جانب تعزيز وتعميم نموذج المقاومة الشعبية، واستعادة الوحدة الوطنية، ونقل ملفات أخرى إلى هيئات الأمم المتحدة، مثل المرجعية الملزمة لأي عملية سياسية سلمية مستقبلية، والرأي الاستشاري الصادر عن محكمة لاهاي بشأن جدار الفصل العنصري، وتقرير غولدستون وغيرها من خطوات تستهدف نزع الشرعية عن دولة الاحتلال وإجراءاتها العنصرية. وإلا فإن احتفالية اليوم برفع وضع فلسطين إلى (دولة غير عضو) ورفع مستوى التمثيل الدبلوماسي في مؤسسات الأمم المتحدة سينطبق عليها المثل (أسمع جعجعة ولا أرى طحناً). ففي مقابل الهجوم الإسرائيلي المتعدد الجبهات، ينبغي خوض مجابهة دبلوماسية وكفاحية فلسطينية دولية مع إسرائيل والولايات المتحدة التي توفر لها مظلة حماية في المحافل الدولية، وبالتالي تطوير التحرك الدبلوماسي الراهن كي يصبح أحد مكونات الاستراتيجيا الوطنية المطلوبة، وهي استراتيجيا تطالب التوافق والاتفاق على موقف سياسي وكفاحي موحد يشكل حجر الأساس لبناء موقف قومي عربي موحد داعم للموقف الفلسطيني.. الأمر الذي لا يبدو ممكناً في ظل استمرار حالة الانقسام، وانكشاف الظهر الفلسطيني لشتى التدخلات الإقليمية والدولية التي توظف الانقسام الفلسطيني في خدمة أجندة هذا الطرف أو ذاك.

العدد 1105 - 01/5/2024