التغيير ما بين منطق الشخصنة.. والمنطق الجمعي

طالما أكد الفقه الديني و مختلف المسلمات الأخلاقية لعهود مضت وحتى الآن أن التغيير أي تغيير يبدأ من اللبنة الأساسية في المجتمع وهي الفرد، وتم التعامل معه لعهود كوحدة مستقلة وعلى أنه الفاعل التاريخي الأول في أي حراك تغييري أو تنويري.

الفرد المتعالي على المجتمع الرؤية الكارزمية

إن مصطلح الكاريزما وما يعني في اللغة العربية القيادة الملهمة هو مصطلح حديث الولادة، ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، إلا أن معطيات هذا المصطلح والحديث عن الفرد الكارزمي إن صح التعبير لهو معطى قديم الاستخدام، بمعنى بقي التفكير بأن الشخصيات الكارزمية هي القائدة للمجتمع بمختلف حالاته سكونه وديناميكيته، وأي تغيير يحدث ينسب إلى الفرد.

والكارزما هنا لا تعني بالضرورة القائد الملهم الرسمي، أو الذي سنت عليه اللوائح التشريعية، أو ما تم الاتفاق عليه في عقود الاجتماع، وإنما هناك القيادة غير الرسمية، وهي التي يجتمع حولها الناس وتعد مرجعية.

 إن تقديس الفرد والنظر إليه كوحدة مستقلة محركة في عملية التغيير، بدل الحديث عنه كجزء من كل، والانتقال إلى فكرة التغيير ككل مستقل لا يزال حتى الآن لم يأخذ حقه بالشكل الكافي.

شخصنة التاريخ

الحقيقة هي أننا لم نقرأ التاريخ بقدر ما قرأنا شخصياته، ولعل تاريخ الانتفاضات في المجتمع وتاريخ التغييرات والثورات هو تاريخ الأفراد. نحن نعيش شخصنة التاريخ، بمعنى أننا نربط الحدث التاريخي بالفرد، وفي هذا اختزال للحدث التاريخي وعزل لبقية العوامل، وبالتالي تقزيم للظروف الدافعة أو المعيقة والشخصيات الملتفة حول القيادة الشعبية أو الرسمية.

فالذي فتح الأندلس هو طارق بن زياد، والذي قام بالثورة الفرنسية هو نابليون بونابرت، والسرد التاريخي حتى عهود عدة ينجز بهذه الطريقة ويسيطر عليه النظرة الأحادية على الفكر بمختلف مجالاته.

التغيير معطى جمعي

يمكننا القول إن الذي اخترع المصباح الكهربائي هو أديسون، مادام العمل الابتكاري هو عمل فردي بامتياز. ومع ذلك لا يمكننا تحييد الظروف المحيطة بالمبتكر أو بظروف الابتكار ذاته.. إذاً ما الذي يجعل عدد براءات الاختراع في اليابان يفوق عدد براءات الاختراع في الوطن العربي كله؟

أما الفعل التاريخ هو فعل جمعي بامتياز، ولذا لا يمكنني تفسيره بمكوناته (أقصد لا يمكن تفسيره بالفرد. وهنا لا يمكن النظر إليه بمكوناته فرد – فرد وأُقسِّم إنجازات الفعل التاريخي عليه، لأن النتيجة سوف تأتي مشوهة، لذلك يجب النظر إلى أي فعل (تاريخ فرد- ظرف – كاريزما) وهذا بكليته يتفاعل مع الواقعة التاريخية.

وهنا أود إسقاط ما ذكرناه على الواقع:

إن من قام بالتغيير في تونس ليس هو البوعزيزي، لأن البوعزيزي انتهى، بل جمع من الأفراد تعرضوا جميعاً لحدث صادم (الانتقال بالعدوى الاجتماعية- وشأنها في ذلك شأن العدوى البيولوجية). وحتى الآن لا تزال تظهر حقائق حول الآليات التي ساهمت في عملية تغيير النظام في تونس، منها ما يذكر الآن من خيانات ساهمت في استغلال الوضع الطارئ لصالهحا، واليوم يجري الحديث عن أن ابن علي لم يكن في نيته الهرب من تونس!؟

في جدلية الفكر نجد أن تناول الموضوع بصيغة أن البوعزيزي صنع ثورة وأسقط نظاماً، والذي أسقط نظام مبارك هو ميدان التحرير! لكن هذا الاختصار فيه تشويه لحقيقة الواقعة التاريخية وبالتالي يكون تاريخنا تاريخ الكذب والاستهلاكات اللغوية.

عوامل دافعة للتغيير

الأزمات  وهنا لا نقصد الأزمة فقط بل الوعي الجمعي بهذه الأزمة وردود الفعل الجمعية عليها والأنساق التي تأخذها هذه الردود. فالذي طور آليات اليابان للتقليل من خطر الزلازل هو كثرة تعرضها لها، والتي خلقت ذهناً جمعياً يسعى لتقديم حلول لهذه الأزمة.

– العدوى الاجتماعية  وبالطبع وحدها لا يمكن أن تكون سبباً عقيماً ووحيداً. وهنا لا أود أن أسوق مثالاً من علم النفس، بل سأسوق مثالاً من مقالب الكاميرا الخفية الذي على بساطته يحمل الكثير. مثل من يصور رجلاً فينظر إلى الأعلى ويراقب ردود فعل الناس الذين يحاكونه في الفعل ذاته، أو أن أحداً ما يركض هارباً وهو في حالة ذعر، نرى الناس يركضون. إذاً فالعقل البشري أقرب إلى المحاكاة، وبالتالي أقرب إلى تشكل ذهن جمعي يفكر بمنطق الحدث لا بمنطق الفرد، إذاً كل حدث اجتماعي- سياسي- فكري – نهضوي لا يسير بمنطق: هذا كيف فكر؟! وهذا كيف انحرف عن المجرى العام؟! فالتغيير كالنهر الجارف..

العدد 1104 - 24/4/2024