داود حيدو… وداعاً.. ملامح سلوكية وفكرية للرفيق داود حيدو

أن تفي إنساناً عالماً جزءاً مما يستحق، يعني بكل المقاييس أن تعيد إلى الحياة أفكاره، التي قد يكون الإهمال والنسيان وراء تغييبها في زوايا الأدراج.

وانطلاقاً من هذا المفهوم للإيفاء، فقد وجدت أن أنسب تأبين للراحل الحاضر الدكتور داود حيدو هو في استعراض أفكار وآراء له سبق أن طرحها في مناسبات ثلاث، وهي تظهر مواقفه السلوكية الأخلاقية والفكرية المتقدمة.

 

من رسالة داود إلى سكرتاريا الحزب

(… كلفت مؤخراً بتمثيل سورية في مجلس إدارة الشركة السورية الليبية، التي رأسمالها المدفوع نحو 100 مليون دولار مناصفة بين الدولتين، وهي تملك الآن مزرعة في رأس العين ومدجنة كبيرة في دمشق، وتبني مزرعتين للأبقار والغنم في حوران، وتنوي إقامة بعض المشاريع الأخرى.

وقد أتى تعييني هذا في إطار جملة من التغييرات بين ممثلي سورية في إدارات عدد من الشركات المشتركة، وقد تصدر خلال الفترة القادمة تغييرات أخرى.

إن أنظمة هذه الشركات تقضي بأن تبدل الدول الأعضاء ممثليها في الإدارات كل ثلاث سنوات، وبالنسبة إلى سورية فإن بعض ممثليها قد مر عليه خمس أو حتى سبع سنوات، وبعضهم مات أو استقال أو هاجر، وما يزال مكانه شاغراً، ويمكن أن يصل عدد الذين سيتناولهم التغيير إلى 20 شخصاً بالمجموع، ويجب ألا تقل رتبة الممثل عن المدير في الدولة.

عندما كنت وزيراً كنت عضواً في لجنة الرأسمال المشترك برئاسة قدورة، ولم يكن لأحد في هذه اللجنة تعويض. وعندما استدعاني الكسم ليعرض عليَّ العمل كمستشار، قال لي: عليك أن تستلم هذه الشركات أيضاً، لأننا لا نعرف ماذا يجري فيها، ومن يأكلها. ولكن يبدو أن ذلك لم يكن سهلاً، فقد استلم مكتب هذه الشركات شخص يثق به سليم ياسين، وهو الذي أتى به.

واستمرت الأمور هكذا إلى أن تبلغت بعضويتي في الشركة المذكورة دون طلب مني ودون علمي أو حتى أخذ رأيي…

قبل هذه السنة كانت التعويضات لمثل هذه المهام تصل إلى 60 ألف ليرة سنوياً… أما بدءاً من عام 1985 فتسري بهذا الخصوص تعليمات أخرى صدرت في العام الماضي وبتشجيع مني شخصياً، وتقضي بأن تأتي كل تعويضات ممثلي سورية في هذه الشركات إلى المالية – صندوق الدين العام، وأن يدفع لهم هذا الصندوق التعويضات التي يستحقونها بموجب القوانين السورية، أسوة بالقائمين بالعمل الإضافي في دوائر الدولة، وقد دخلت هذه التعليمات في صلب القانون الأساسي للعاملين الذي سيسري بدءاً من 1986).

وهكذا، كما نرى، فالدكتور داود، رغم علو مرتبته الوظيفية، كان يجد نفسه ملزماً أدبياً وحزبياً بأن يضع قيادة الحزب في صورة كل ما يحدث معه، وبضمن ذلك مقدار ما يتقاضاه من أموال نتيجة وجوده في موقع المسؤولية، فهو لا يمثل شخصه في ذلك الموقع، بل هو يمثل مجموع الحزب.

وهو إضافة إلى ذلك لم يسعَ إلى المنصب، بل اختير له لنظافة يده وحسن سمعته، وقد عمل كي لا يكون وجود أمثاله في تلك المسؤوليات باباً لاكتناز أموال تعويضات، وجدت أصلاً كي تخلق تفاوتات طبقية بين الناس.

 

ملاحظات داود على مشروع البرنامج

بتاريخ الخامس من أيار عام 1993 عقدت اللجنة المركزية اجتماعاً لمناقشة مشروع برنامج الحزب الذي كان سيقدم إلى المجلس الوطني لإقراره، وفي هذا الاجتماع قدم الدكتور داود مداخلة تتضمن ملاحظاته على المشروع، وقد جاء فيها:

(… الوضع الداخلي أفضل أجزاء المشروع، لكن لديَّ أسئلة:

– نطالب بتوسيع الجبهة، فهل هذا صحيح الآن؟ ومن هي القوى التي نريد ضمها للجبهة؟ وهل هذا هو المطلوب، أم المطلوب أكثر هو زيادة إشراف الجبهة على سياسة البلاد ومشاركتها في القرارات؟!

– هناك ضعف في الحديث عن الأزمات التي تعانيها الجماهير وموقفنا من مختلف الحلول المطروحة: اتجاهات التنمية، جوهر التعددية الاقتصادية والسياسية، الإصلاحات الاقتصادية، التوازن الاجتماعي…إلخ.

– لماذا لا نتعرض بشكل أوسع للتيارات الدينية، سواء في الداخل أم على النطاق العربي… هنا يمكن تبيان أنها في آخر المطاف تعبِّر إلى حد بعيد عن صراع بين البرجوازيات العربية، التي تريد الانطلاق في تطورها الرأسمالي، وبين التيارات الأصولية، التي ترجع بأهدافها إلى الإقطاع وما قبل الإقطاع.

– … قسم الاشتراكية لا بأس به، لكن يغلب عليه طابع الاشتراكية الإصلاحية. يجب التعرض لمسألتين حتى يتم استكماله: الأولى السلطة في الاشتراكية، والتحالفات والجبهات في الاشتراكية. كما يمكن القبول بالاحتكام الدائم للشعب، حتى إذا أدى الأمر إلى تبدل في السلطة، وفي اتجاهات التطور الاشتراكي، ووتيرة التحولات الاشتراكية.

– هنا بتقديري لا يجوز وضع الفكر الماركسي في إطار المسلمات والأفكار والمفاهيم التقدمية الأخرى والتراث كملحق يستأنس بها ويستفاد منها… إلخ. يجب أن ننطلق من أن التراث الماركسي هو حصيلة الفكر التقدمي في العالم واستمرار له، وفكرنا سيكون ماركسياً بقدر ما يستطيع أن يكون حصيلة الفكر التقدمي في العالم كله…).

وأفكار الدكتور داود في هذه المداخلة ليست بحاجة إلى شرح وتوضيح، فهي تتحدث عن نفسها بنفسها، لكن يبقى السؤال مفتوحاً: هل أخذ الحزب بهذه الآراء، وإن لم يكن قد أخذ، فلِمَ لمْ يفعل؟

 

دراسة الدكتور داود حول اقتصاد الحرب

تحمل هذه الدراسة العنوان التالي: (موضوعات حول نظرية اقتصاد الحرب)، وهي غير مؤرخة، لكنها على الأغلب قد كتبت عام ،2000 وفقاً لوثائق أخرى مؤرخة وجدت بينها، وأغلب الظن أنها لم تنشر أو تعمم على نحو واسع، وإن كنت أعتقد جازماً أن نسخاً منها قد أرسلت إلى جهات عليا ذات صلة بالموضوع، دون أن أؤكد أو أنفي أن أحداً قد استفاد من الأفكار التي كانت في متنها.

تضم هذه الدراسة الفقرات التالية: علاقة الحياة العسكرية بالاقتصاد، متطلبات الحياة العسكرية الحديثة من الاقتصاد الوطني، الفروق الأساسية بين الاقتصاد السلمي واقتصاد الحرب، الهيكل الاقتصادي الذي ينشأ بتأثير الحرب، تأمين الجانب الاقتصادي للدفاع عن الوطن، مسألة الاحتياطي الحربي، الارتباطات بين الاقتصاد والقوات المسلحة، التدابير الضرورية للحفاظ على استمرارية النشاط الاقتصادي، أهم القضايا الاقتصادية التي على القيادات العسكرية أن تراعيها، النهوض بأعباء الحرب.

وكما نرى فالمواضيع التي تعالجها هذه الدراسة هي مواضيع على غاية من الأهمية، مهما كان شكل الحرب المعلنة، ونحن نلمس أهميتها خصوصاً في هذه المرحلة من حياة سورية، التي تجري فيها حرب حقيقية، لكن ليس على الحدود فقط، وإنما في الداخل السوري أيضاً حيث يجري اقتتال شرس بين مكونات من الشعب السوري، وهي مرحلة أعلن عن حكومتها الأخيرة أنها حكومة حرب، لكنها جاءت أبعد ما تكون عن قيادة الاقتصاد وفقاً لنظرية اقتصاد الحرب.

 

كلام ليس هو الأخير في الراحل

مع أن الدكتور داود في المراحل الأخيرة من حياته لم يعد يعيش ظروف بدايات حياته، إلا أنني سمعته مرات عديدة يذكر الأصول الفقيرة لمنبته الطبقي وشظف الحياة التي مر بها بكثير من الفخر والاعتزاز بالنفس، ودون تنكر لهذا الماضي، إذ ليس عيباً أن تولد فقيراً، بل العيب كل العيب أن ترضخ للواقع، وألا تعمل لتغييره… وما كان الراحل عنا جسداً، الباقي بيننا فكراً، إلا من العاملين من أجل تغيير الواقع نحو الأحسن.

العدد 1105 - 01/5/2024