البحث عن فرص جديدة «لسنا الأفضل لكننا الوحيدين»

مازال شبابنا يحاول، رغم كل ما يحدث، أن يقف من جديد بعد كل مرة يقع فيها، لتزيده هذه الكبوات إصراراً على البدء مرةً أخرى وبقوّة.

لقد خسر كثير من شبابنا العاملين في القطاع الخاص فرص عملهم، فمنهم من استسلم لليأس والبطالة، ومنهم من فكّر بطريق آخر، كأن يصنع فرصة عمله بنفسه في ظل هذه الأحوال الصعبة، تمكّنهم من أن يثبتوا جدارتهم في الحياة بإبداع أفكار جديدة يخلقونها بأنفسهم من رحم الصعوبات والظروف.

فها هما رغيد وجميل شابان عملا لفترة ليست بقصيرة في القطاع الخاص، فذاك عمل في مصفاة للزيت بعد دراسته الترجمة ومعهد الصناعات التطبيقية، وهذا عمل في شركة حواسيب بعد دراسته في المعهد الفندقي، ومع التغيير الذي ألمّ بالمنطقة ككل بدأت رواتبهما تتضاءل إلى أن تركا العمل وعادا أدراجهما إلى القرية لتبدأ حكاية جديدة.

كانت الأيام الأولى صعبة، فالمال يتناقص ولا خيار إلا الحقل، وهذا العمل لا يحتاج وقتاً طويلاً، ما جعل الفراغ يدخل حياتيهما، فمن النرجيلة إلى شرب المتة إلى تجمعات لعب الورق.. صار الوقت يمر ثقيلاً دون جدوى، وهنا قررا أن يبدعا فكرة عمل مناسبة تحتاجها القرية.

يقول رغيد: توصلنا إلى فكرة فتح مصبغةٍ للقرية تقتصر في بدياتها على الغسيل والكوي فقط.. وهي فكرة جديدة وهامة نظراً للأوضاع التي أرغمت أهلها على ترك المدينة والسكن فيها. فنشأت فكرة المصبغة مع الإرادة والتصميم على خلق مشروع جديد وخدمي.. خاصة أنه يحتاج إلى رأسمال بسيط، وعلى هذا الأساس جُلبت الأدوات الضرورية، على أن يجري توسيع المشروع رويداً رويداً. أما بالنسبة إلى الأرباح فإننا نفكّر أولاً بتسديد وتغطية النفقات، مدركين أن الربح لن يحصل في وقت قريب.. والذي حدث أن دراستنا بدأت تترجم على أرض الواقع، فنحن قد عملنا بأنفسنا، وفكرنا بتوسيع العمل لنشغّل عدداً من أبناء القرية، وبدأت تتبين لنا مدى حاجة القرية إلى مثل هذا المشروع، فعلى الرغم من غلاء المواد الأولية وانقطاع الكهرباء إلا أن أبناء القرية لهم سوى مصبغتنا، فالطرقات غير آمنة، إضافة إلى أن عملنا جذب كثيرين لأننا أتقنا العمل بعد أن تدربنا قبل فترة عند إحدى المصبغات، وتعلمنا مبادئ المهنة.

ويؤكد جميل وجود بعض الصعوبات، فيقول: (وهذا لا يعني أنه لا توجد صعوبات، فالدوام متعب والتعامل مع المواد الكيميائية وروائح الصابون تسبب الحساسية، والتعامل مع الزبن ليس بالأمر السهل. لكن مقارنة بالإيجابيات فنحن نعمل عملاً هاماً، إذ يكفينا الاستقرار النفسي والمادي وقابلية المشروع لأن يتطور ليصبح مشروعاً متكاملاً ليضم لاحقاً ورشةَ خياطة ومتجراً لبيع المنتوجات التي نحيكها ونصبغها.. وطبعاً للأزمة دور سلبي بالنسبة إلى العمل، منها صعوبة الحصول على المواد اللازمة للعمل، وتوقف بعض المعامل، وبالنسبة إلى التسويق فإننا نعتمد على العلاقات الاجتماعية القوية وعلى إعلانات وبروشورات موزعة في الأماكن العامة ومناطق متعددة داخل القرية وخارجها.. وإننا مستمرون إلى الأمام. ومن باب الفكاهة وضعنا على باب المصبغة عبارة (لسنا الأفضل لكننا الوحيدون).

 والتقينا مع مجموعة أخرى من الشباب في القرية افتتحوا مشروعاً خاصاً بهم على سطح منزل، وكان المشروع هو  كافتيريا وأسموها (كافتيريا الشوادر).

وهم من مهن مختلفة: رأفت (24 عاماً) معهد معلوماتية، هاني (24 عاماً) هندسة مدنية، باسل (24 عاماً) ورائد (24 عاماً) معهد تكييف وتبريد، وقد جمعتهم فكرة المشروع نظراً لحاجة القرية إلى كافتريات متعددة، إضافة إلى حاجة الشباب للعمل الخاص بهم.

في البداية فكروا بالمشروع ليكون موسمياً فقط خلال فترة الصيف، لكنه تطور ليمتد صيفاً وشتاء.

كان الرأسمال في بداية مشروعهم عبارة عن مبلغ بسيط جداً، ثم توسع وقاموا بتطويره. ففي العام الماضي اعتمدوا فكرة الاستئجار من مستلزمات وأدوات المقهى وغيرها، ولم يكد موسم الصيف الجديد أن يأتي حتى استطاعوا شراء هذه المستلزمات وتجديد الديكور من أرباحهم السابقة.

يقول رأفت: هذا المشروع لا يمكن تطويره إلا من خلال توسيعه وتشغيل عدد أكبر من الشبان.

وطبعاً ككل عمل له سلبياته، من مثل ضغط الشغل المتعب والمرهق، وتحمّل مختلف أنواع الزبن، وعدم توافر البضاعة وغلاء الأسعار بسبب الأحوال، وعدم التناسب بين سعر التكلفة وسعر الخدمة، وعدم توافر الأيدي العاملة خلال العام، والأكثر سلبية أننا اضطررنا تعلّم شرب النرجيلة لخدمة الزبن الذين يريدونها.

أما الإيجابيات فهي كثيرة طبعاً، فلقد تعرفنا على الحياة أكثر، وفتحت لنا أبواب أكبر من خلال التعامل مع شرائح مختلفة من الناس، وتعلمنا قراءة الناس بطريقة جديدة ومختلفة، إضافة إلى الاعتماد على النفس في صنع المشروع، والصبر، وتعلم الطبخ ومختلف الحلويات، ووصولنا إلى استقرار مادي نسبي، ناهيك بالاستقرار النفسي.

وبالطبع يوجد مقاهٍ أخرى لكن مع الأيام ومع وجود القدرة على المنافسة والعلاقات الطيبة مع الزبن جذبنا كثيرين مع تقديم الخدمات المميزة والمختلفة، من مثل تقديم الطلبات المجانية والمشاركة في تقديم هدايا للناجحين في الشهادات الإعدادية والثانوية، والتعامل مع جمعية القرية، والمشاركة بفعالياتها على نحو مجاني وتشاركي.

وهكذا كل يوم تظهر مجموعة من الشبان الذين فقدوا عملهم لأسباب مختلفة ليفكّروا بمشروع جديد يخدم تطلعاتهم ليكتشفوا أنّ بمقدورهم خلق فرص بأنفسهم وتحقيق أحلامهم بأيديهم.

العدد 1104 - 24/4/2024