في العقل والقلب باقِ

عودنا الدكتور داود حيدو دائماً، بما عرف فيه من إرادة ورغبة قوية في الحياة وقدرة فائقة في التغلب على الصعاب ومنها المرض، يدعمه في ذلك جسم قوي منتصب ووجه وردي دائم التفاؤل والتألق، أن يحقق نصراً جديداً على المرض.. لكن هذه المرة وعلى الرغم من بقائه حتى ساعاته الأخيرة يكتب لجريدة (النور) كانت الجولة الأخيرة التي خسرناه فيها.

الحديث عن الدكتور داود حيدو هذه المرة وبمناسبة وفاته، ليس حديثاً بروتوكولياً محدود الزمان والمكان يجب القيام به للتنويه بمناقب الفقيد وسيرته، ثم تمضي الأمور ويغرق الجميع في مشاغل الحياة وهمومها خاصة في هذه المرحلة، بل هو حديث عن خسارة كبيرة ومؤلمة لرفاقه وأصدقائه ومحبيه الكثر ممن اتفق أو اختلف معهم في العمل والسياسة وفرض عليهم احترامه وتقديره لموقفه الوطني والطبقي المميز واحترامه وممارسته العملية لحرية الرأي واحترام وقبول الرأي الآخر.

انضم الدكتور داود حيدو اليوم إلى رفيق عمره الدكتور مفيد حلمي ورفاق آخرين كثر، كانوا مثال الكفاءة والنزاهة والإخلاص في مختلف المواقع التي شغلوها، وكانوا مدرسة ورواد مرحلة أكد فيها من رافقهم أو / و من جاء بعدهم من الرفاق هذه الحقيقة في جميع المواقع التي تسلموها في الوزارات المختلفة وفي العديد من المؤسسات والشركات العامة (الحبوب ومحروقات والإنشاءات، والعديد من المرافق العامة الأخرى)، أنهم كانوا مثالاً يحتذى في النزاهة والكفاءة والإخلاص، وكان وجودهم في عدد من المراكز الحساسة (تسويق النفط، الحبوب، محروقات..) مؤشراً أن الأزمات التي يشهدها هذا القطاع أو ذاك، ستعالج بسرعة وكفاءة، لأن المسؤول هنا هذه المرة مطلوب منه فقط حل الأزمة وليس التربح أو خلق الأزمات، وبذلك غابت عن وطننا وشعبنا أزمات كثيرة من النفط والمحروقات إلى الحبوب والدواء، في وقت كانت سورية فيه قاب قوسين أو أدنى من نفاد الوقود والطحين وغيرهما. وأهم من كل ذلك أنه أمكن تكوين احتياطي من القطع الأجنبي كان للدكتور داود حيدو دور رئيسي في تكوينه من خلال إدارته مكتب تسويق النفط.

في عمله المهني والحزبي كان لدى داود حيدو (ترمومتر)، أو كما نقول اليوم (حسّاس) وطني وطبقي يستشعر ما يسيء إلى مصلحة الوطن والطبقة العاملة والفئات الكادحة والوسطى، وبضمنها الصناعيون الوطنيون.. وانطلاقاً من ذلك كان لفترة نحو أربعين عاماً محركاً العمل والنشاط في المكتب الاقتصادي المركزي للحزب، الذي كان حتى فترة قريبة يجتمع في منزله وبحفاوة معتادة على الدوام من رفيقة عمره الرفيقة الغالية لويزا عيسى. وكان هذا المكتب قلب وعقل الحزب الاقتصادي والاجتماعي وراسم سياسته ومواقفه التي كان يعلنها، سواء في صحافة الحزب أو في اجتماعات الجبهة ومجلس الشعب ومجلس الوزراء ومختلف الهيئات والمؤسسات الأخرى التي يشارك فيها.

ولا أذيع سراً أو اعترافاً أن الدكتور داود حيدو كان أغزرنا إنتاجاً وكتابة، لا من ناحية الكم فقط، بل وقبل ذلك من ناحية النوعية. إضافة إلى كل ذلك لم يكن أحد من أعضاء المكتب الاقتصادي في الحزب يكتب مقالة أو يعد تقريراً إلا ويتلقى اتصالاً أو لقاءً من الرفيق داود يهنئه على ما كتب أو يناقشه في بعضه.

الحديث يطول عن الدكتور داود حيدو، ولا يمكن اختصاره في كلمات، بل لابد أن نبقي شيئاً لرفاقه وأصدقائه ومحبيه لذكره وافتقاد دوره وإمكاناته في قادم الأيام.

فقدان داود حيدو خسارة كبيرة لرفاقه وأصدقائه، لكن ما يزيد من مرارة الفقدان أنه رحل وسورية غارقة في حمام الدم الذي يستهدفها وطناً وشعباً، دون أن تكتحل عيناه برؤية سورية الجديدة الديمقراطية التقدمية الموحدة.

العدد 1105 - 01/5/2024