من الصحافة العربية العدد 561

(الربيع) يمارس ثورة الفرز بين أزهاره وعوسجه؟

 

كلما اقترب العرب من الحياة السياسية أكثر، عصفت بهم رياح الغيبيات من جديد. هذه ليست حكمة فلسفية، ولا قانوناً اجتماعياً، لكنها نوع من الطغيان الجبار الأشبه بعدوان الاستعمار، لكنه نابع من ضحاياه قبل أن يكون مستورداً من أسياده الغرباء، أو مفروضاً من الخارج بفعل (المؤامرة). فلقد تكررت ظاهرة الطغيان الغيبي هذه عبر مفاصل مُغْرقة في تاريخ الانحطاط العربي. هاهي ذي تعود عبر هذه اليقظة المفجعة ملء عصر النهضة المعاصر، ولعلها تبلغ أوجها مع تباشير انطلاقة جديدة، حاملة عنواناً ربيعياً يكاد يكون غير مسبوق في حقبة هذا الاستقلال الوطني المهدد بكل أضداده ذاتياً، لا خارجياً فحسب.إنه أمرٌ عفوي وعقلاني جداً، أن لا تلقى الشعوب المقهورة ثمة محرك ليقظاتها أخيراً سوى أفكارها المتوارثة لكي تدفع بها ضد كل ما تجده غريباً وعدوانياً على عفويتها وبراءتها المطلقة. لكن الأمر المصطنع والمداهم هو أن تطرأ على هذه اليقظة العفوية قوالبُ التنظيم الغيبي كيما تستثمر عفوية التديّن الجماهيري، وتستخدمها لصالح عين الأهداف الذاتوية المريبة التي اشتكت منها النهضة الاستقلالية طيلة مختلف تحولاتها الفوقية العابرة والمستغلة.فأمرٌ مفهوم جداً أن تثور جماهير الأمة تحت شعارات تراثها الروحي، لكن ما هو غير طبيعي أبداً أن تصبح هذه اليقظة ثروة لقوانين الاستغلال القديمة ذاتها، أي لهذه المروحة الواسعة من تسميات التديّن السياسوي الطافح على جلد مجتمعاتنا كالأوبئة المزمنة. هنالك إذاً فرق هائل في النوع لا في الدرجة فحسب، بين التديّن العفوي المتوارث، وبين أساليب استغلاله في التنظيمات السياسوية الفائضة عن اللزوم ما فوق المشاعر الطبيعية العادية للكتل الجماهيرية.هذه التنظيمات الطارئة راحت تنخرط في عمليات المزايدة بعضها على بعض تحت وطأة المبالغات القصوى في الطَقْسَنة، والاستغراق في أدلجة مفاهيم عادية ومتداولة من هذا التراث العظيم لثقافة الإسلام كحضارة ومدنية، لا كتأويلات لأشخاص عاشوا مشكلات زمانهم ثم انقضوا. مايحدث اليوم هو انقضاض هذه التنظيمات بتأويلاتها شبه الأسطورية، على عفوية اليقظات الجماهيرية في أصقاعنا العربية والإسلامية. تختطفها من جذورها ومصادرها البشرية والتاريخية وتدّعيها ثقافةً لأفكارها المبهمة والعاجزة عن التواصل مع ظروف الحاضر المحلي والإنساني العام.

فمن يختطف ثورات الربيع العربي ليس هو العدو الخارجي الدائم بصورة مباشرة، بل هو هذا الاحتلال المعمم تحت التسميات الطقسية من سلفية وجهادية وانتصارية.. إلخ، وبالنيابة عن ذلك العدو نفسه.هكذا إذاً تُولد الثورة ونقائضُها المجتمعية معها أيضاً، وقد تنتشل بعضُ هذه النقائض أثواباً مستعارة من رفيقتها الثورة، تزوّر أهدافها، وتدّعي التملك الحصري لثمار كفاحها، وانتحال ظواهر تصرفاتها السطحية. إنها الرجعية المجتمعية، ليست أقل خطراً من مركّب الاستبداد/الاستغلال الحاكم. فإذا ما سقط رأس هذا الاستبداد صعدت هذه الرجعية المجتمعية من عمق القاعدة الهرمية لكيان الشعب، بطريقة الخداع عينه، أي سرقة السلطة بعد سرقة الثورة المستحقة لحكمها.

لن تختلف هذه الرجعية المجتمعية كثيراً عن سابقتها إلا من حيث الشكل، فهما معاً يشكلان خط الاستقطاب ما بين استبداد الأعلى واستبداد الأدنى. لذلك رأى المفكرون أنه لا ضمانة للثورة السياسية في أعلى الهرم إن لم تتابع كفاحها ضد مؤسسة الاستبداد المتغلغلة في التكوين الطبقي والفكري للمجتمع الثائر، فما يحدث اليوم في هذه المرحلة الانتقالية لمجتمعات الربيع العربي الجديدة، هو أن الرجعية المجتمعية تكاد تتقدم صفوف الجماهير لتمارس اغتصاب حصتها الأكبر من مكاسب السلطة، مع الفارق عن سلطة الفراعنة المنهارة في كونها تتلبّس طقوس التديّن. غير أن هذا الربيع لن يكون غافلاً عن البدائل المزيفة لموسم أزهاره بموسم آخر من العوسج والأشواك الضارة. ما يشكل حيوية التغيير الراهنة هو التصدي السريع الذي تمارسه مختلف قوى المجتمع مجدداً.هذه المرحلة الانتقالية المشبعة بأهم الأخطار والخيانات لن تمر بسهولة ما فوق ميادين التحرير المفتوحة اليوم في مدن الثورات العربية الصاعدة، حيثما تسكنها الجماهير ليلاً نهاراً. لكن تجارب الشوارع الصاخبة في القاهرة عاصمة الثورة العربية المستدامة، أصبحت ترسم على أرضها الخطوط الكبرى لمبادئ الحرية الشعبية وأصولها الجديدة. الربيع العربي الذي فاجأ أعداء العرب من الغربيين الغرباء وأشباههم المحليين الأقرباء هؤلاء جميعاً يُفاجَؤون كذلك بتساقط أساليب اختطاف الثورة واحداً بعد الآخر، ومع ذلك فإنهم يتابعون تخطيطهم من أجل أن لا يكون للمرحلة الانتقالية الحالية أسيادها الفعليون في أي من منعطفاتها الحالية أو الآتية، بل لا بدّ من اختراع العقبات في طريقها مهما كانت الظروف الشعبية واعية وقادرة على فرز الصديق من العدو.

مطاع صفدي

مفكر عربي مقيم في باريس

(القدس العربي)، 10/12/2012

 

 

في معنى الديمقراطية

 

(القمع يمارس باسم ضدّه، أي باسم الحريّة! وحده الأحمق يعتقد أنّ نصره يكون بوضع الآخر في قبو)!- جود سعيد

(من غير ضدّك الفكري، لا معنى لما تقول). قبول الضدّ في الحياة درس بسيط تعلمه الطبيعة لكائناتها كي تضمن بقاءها. لم يستوعب هذا الدرس من كان يتظلّم دوماً من الإقصاء والتهميش، بل مارس أوّل ما استطاع الإقصاء والإلغاء كي يكون في الساحة وحيداً واحداً أحداً، لا صوت يعلو فوق صوته. كما كان ممنوعاً سابقاً أن يعلو أيّ صوت فوق صوت المعركة. هل هذا اعتراف لا واع من الحرّ بمتعة ممارسة السلطة على الآخر؟ أيّة سلطة كانت! النتاج الفني خلاصة تجربة الفنان الحياتية، وهو التعبير الأسمى عن فكره ومواقفه من الحياة والوجود وخصوصاً من اليوميّ المعيش. إنّ إقصاء هذا النتاج ليس إقصاء للفنان فقط، بل هو إقصاء معنويّ لكلّ من يرى في هذا النتاج تمثيلاً لقناعاته أو للفنّ الذي يحبّ. وفي السينما (الفن الديمقراطي الجماعيّ بآليات صنعه)، يصير الإقصاء مضاعفاً، إذ يشمل فريقاً كاملاً حكم عليه السيّد الحر (المدافع عن التعدديّة) بتهمة الانتماء لشخص مخرج الفيلم!

في العالم العربي اليوم، صار امتلاك سينمائي ما لوجهة نظر غير ربيعيّة جريمة قميص عثمانها جاهز (بيان سينمائيي الداخل مثالاً). وكي يتمّ تبسيط الجريمة للجمهور، تتكفل المحادل الإعلامية بالإدانة بجعلك تابعاً ومريداً وقاتلاً بقولك وفعلك، وحتى بصمتك (كما يقولون). وهكذا يصير الدّم النازف عاراً في رقبتك! إنّ السينما التي تنطق بها الأفلام الثلاثة (العاشق)، و(مريم)، و(صديقي الأخير)) هويتها سوريّة، وهمّها سوريّ، وصنّاعها سوريّون، وقضاياها إنسانيّة سوريّة، وهي باقية، وستشاهد إن لم يكن اليوم فغداً، والإقصاء هنا أقلّه هو إقصاء لجزء من مكوّن الهوية الثقافيّة السوريّة، أكرّر أقلّه. السينما التي أصنع تعبّر عني وعن قناعاتي، ولن تعرف الممالأة لك سيّدي الحرّ. كما لم تعرف مهادنة أيّ سلطة، ستبقى سينما حرّة أصيلة كزيتون بلادي.

عبد اللطيف عبد الحميد

(الحقيقة) 9/12/2012

العدد 1105 - 01/5/2024