من الصحافة العربية العدد 560

سورية: التدخل العسكري يقترب

 

هذا الاهتمام الأمريكي  الأوربي المفاجئ بالأسلحة الكيماوية السورية، وتصاعد المخاوف والهلع من إمكان استخدامها من قبل الرئيس السوري بشار الأسد ضد مواطنيه، يكشف عن نوايا شبه مؤكدة للتدخل العسكري في سورية لحسم الوضع، مرة واحدة، وإطاحة النظام الحاكم في دمشق.

أحد المقربين من السيد الأخضر الإبراهيمي المبعوث الدولي، نقل لي عن لسانه، أي السيد الابراهيمي، أن حاكماً خليجياً مُهمّاً أبلغه بأن الأزمة السورية ستنتهي في غضون شهرين، وسيتولى الائتلاف السوري الجديد مقاليد الحكم.

التلويح بخطر الأسلحة الكيماوية السورية وبمثل هذه الكثافة وهذا التوقيت، يذكّرنا بالحملة الأمريكية المسعورة التي سبقت الغزو الأمريكي للعراق، مع فارق أساسي أن العراق كان خالياً من هذه الأسلحة، وبعلم الولايات المتحدة ومعرفتها، بينما اعترف الدكتور جهاد مقدسي، المتحدث باسم الخارجية السورية، المنشق حديثاً، بوجودها رسمياً.

علّمتنا التجارب السابقة أن هناك مؤشرين أساسيين لاقتراب الحروب في منطقتنا، الأول هو تضخيم الحديث عن أسلحة الدمار الشامل العربية، والثاني اهتمام أمريكي وأوربي بالسلام العربي  الإسرائيلي.

الاحتجاج الأمريكي  الأوربي المفاجئ على خطة نتنياهو ببناء 3000 وحدة استيطانية في القدس المحتلة، واستدعاء سفرائه في العواصم الغربية للاحتجاج، حركة بهلوانية مكشوفة للتغطية على التدخل العسكري الوشيك، ومحاولة خداع بعض العرب السذّج على غرار ما حدث من قبل بوش الأب، بدعوته لانعقاد مؤتمر مدريد، لتبرير تدمير العراق عام 1991 تحت عنوان (تحرير الكويت)، وبعد ذلك عندما تعهد بوش الابن بقيام الدولة الفلسطينية عام 2005 قبل غزو العراق واحتلاله في آذار (مارس) عام 2003. الاستيطان مستمر في الأراضي المحتلة منذ ستين عاماً ولم تتحرك واشنطن لوقفه، ولم تفرض أي عقوبات على إسرائيل، ولم تستدع سفيرها مطلقاً، فلماذا هذه الغضبة الحالية ضد الاستيطان، وهي غضبة بلا أسنان ولا عقوبات؟ الأسلحة الكيماوية السورية جاءت من أجل تكوين حاجز ردع ضد إسرائيل النووية، وليس من أجل الاستخدام ضد الشعب السوري أو غيره، وإذا استخدمها النظام فعلاً ضد شعبه، وهذا ما نشك فيه ونعارضه بقوة، فإنه يستحق كل ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج. هذه الأسلحة عربية سورية، ويجب أن تبقى للسوريين، وليس من حق الولايات المتحدة أو غيرها الاستيلاء عليها أو تدميرها مثلما جرى لنظيرتها العراقية، اللهم إلا إذا جرى تدمير كل ما هو موجود في الترسانة العسكرية الإسرائيلية من أسلحة دمار شامل كيماوية وبيولوجية ورؤوس نووية.

عبد الباري عطوان

(القدس العربي)، 5/12/2012

 

 

الزنزانة رقم…

 

1

في الدستور المصري الجديد قضايا كثيرة (امتيازات الجيش والسلطة، الشريعة – فهماً وتفسيراً) تثير خلافاتٍ كثيرة، وتستدعي مناقشاتٍ متنوّعة، لا أحبّ أن أدخل فيها الآن. لكن هناك ما ينبغي رفضه مباشرةً، ودون أيّ نقاش، لأنّه ضدّ الحياة والإنسان، عدا أنّه يعود بمصر إلى عالم القرون الوسطى، وهو ما يتعلّق بحريّات الفرد وحقوقه، وبخاصّة المرأة.

لم يولد بعد الإنسانُ، الفَرْدُ، المستقلّ، الحرّ في نظر واضعي الدستور. الموجود الوحيد هو الجماعة – السَّلَف، من جهة، وهو من جهة ثانية النصّ الدينيّ، لكن كما تفهمه الجماعةُ، اتِّباعاً.

مصر، من جديد، في زنزانة القرون الوسطى: اجتماعيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً.

كارثيٌّ أن تنضمّ مصر إلى المسيرة السياسيّة التركيّة، كما يخطّط هؤلاء. فتركيّا الآن (تجاهد) لكي تتخلّى عن كونها وطناً تعدّديّاً، وتتقلّص في (مذهبيّةٍ واحديّةٍ)، وفي عِرقيّةٍ قوميّةٍ واحديّة. وهي لذلك (تجاهد) للقضاء على أهمّ إنجازٍ ثقافيّ – اجتماعيّ في تاريخها كلّه: العلمنة التي حقّقها كمال أتاتورك، وأتاحت لها أن تكون جزءاً من (حداثة) العالم.

إنّهم يديرون وجهَ مصر إلى الوراء، فيما تتّجه إلى الأمام وجوه البلدان في العالم كلّه.

 2

قد تكون كلمة (نعم) في بعض اللحظات أكثر الكلمات قبحاً في اللغة.

 3

لماذا لا يُعنى العربُ المسلمون بالمستقبل – مستقبل بلدانهم وشعوبهم؟ لماذا يبدون كأنّهم يعيشون على هامش الزمن، داخل زمن خاصٍّ بهم وحدهم؟ لماذا هذا الهيام بالواحديّة، في كلّ شيءٍ وعلى جميع المستويات؟ لماذا لا يعنون بالقضايا الأكثر حضوراً في الثقافة الكونيّة والتي تشغل العالم كلَّه: التعدّديّة، والتنوّع، والاختلاف، والقيم الحياتيّة المدنيّة، العلمانيّة، وحريّات الإنسان وحقوقه – وبالأخصّ الحرّيّات الفرديّة الخاصّة: في التفكير والتعبير في الحبّ والجسد، في التديّن واللاتديّن؟ إضافةً إلى قضايا البيئة، وتغيّرات المناخ، والتلوّث، والفقر، والبطالة، ووحشيّة التقنية، وبخاصّةٍ الحربيّة؟

هل الهيام بالواحديّة هو الذي يصرفهم عن التفكير في هذا كلّه، أو بعضه؟ هل هذا الهيامُ تابعٌ لهيامهم الآخر بالعنف وثقافة العنف، أو هو نتاجٌ له؟ ولماذا لا يُعنَون بتحليل تلك العلاقة المعقّدة بين الواحديّة من جهة والعنف والطغيان والشموليّة، من جهةٍ ثانية، أو بذلك الاقتران العضويّ بين السياسة والسلطة والمال، من جهة، والشموليّة والطغيان، من جهة ثانية؟

ولماذا إذاً هذا السَّفَر الأعمى في محيطات الماضي؟

 4

الحاجة، اليوم، ماسّةٌ أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إلى أن نرفض على نحوٍ قاطعٍ، كلّ ما يحوّل الإنسان إلى مجرّد وسيلة أو أداةٍ من أجل تحقيق أهدافٍ أيّاً كانت – سواء تمثّلت في المقدَّس أو الدين، في الوطن أو الدولة، في التقدّم أو العلم.

الإنسان هو الغاية. وكلّ شيء من أجله. الدين نفسُه وُجد من أجل الإنسان.

لكن انظروا هذا العالم العربيّ: الإنسان هو الأدنى قيمةً بين جميع الأشياء.

أدونيس

(الحياة)، 6 /12/ 2012

 

 

لست متشائماً

 

هناك من بدؤوا يتذمرون من الربيع العربي، لم ينتظروا منه أن يحمل الفوضى التي أعقبته في البلدان التي أطلقته. لم ينتظروا منه أن يكون بداية صراع جديد بين القوى التي رغم أنها حملته لم يحملها هو إلى السلطة، بل رفع إليها قوى إسلامية لم يعرف عنها إيمان بالديمقراطية أو نضال في سبيلها، وبينها من لا يماري بالقول إنها كفر، صراع بين القوى التي قامت به وتلك التي صارت في السلطة. المتذمرون يرون أنهم انخدعوا بهذا الربيع وأنه خان نفسه، وأنه يثبت مجدداً أننا شعوب مفلسة تفور لكن فورانها لا يعقب شيئاً، ولا تلبث أن تعود إلى تقاعدها التاريخي وركودها وتقليدها الذي لا محل فيه للحرية، إلى تمرسها الطويل بالاستبداد. الربيع بالنسبة لهؤلاء أكذوبة لا أكثر، وإذا أكدت شيئاً فهو أننا لا نستحق ما ثرنا من أجله، ولسنا مستعدين له ولا طاقة لنا عليه.

لست متشائماً، أريد أولاً أن لا أُجمِلَ البلدان التي انتفضت في هذه التسمية الغامضة (الربيع العربي)، لا أريد أيضاً أن أسوّي بينها. مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية، بلدان مختلفة متفاوتة. وإذا انتفضت في أوقات متقاربة إلا أن هذا لا يجعلها واحدة، ولا يجعلنا ننسى أن لكل منها تاريخه وظروفه وبنيانه الاجتماعي والسياسي، وأنها في ذلك تتفاوت وتفترق، وأن ما يحدث في كل بلد هو جواب على خصوصياتها وتفردها.

لست متشائماً، من يظن أن الثورات نزهة، وأنها نقلة إلى النعيم وإلى السعادة، ينسى أن هذه الثورات تهز بنى هي نفسها من نصف قرن وأكثر أو أقل. لكنها عقود متطاولة ترسخت فيها وتكلست وانتخرت في الوقت نفسه. ولا يعني دمارها إلا نوعاً من الخلاء السياسي القابل لأي ريح. لا يعني سوى الفوضى التي لن تنحسر إلا بعد تجارب وتجارب. ينسى المتشائمون أن هذه الفوضى ليست مباغتة ولا غير منتظرة. إنها بالتأكيد جزء من المخاض الذي لا بد منه ولا بد من خوضه للوصول شيئاً فشيئاً إلى بنى جديدة، وللوصول شيئاً فشيئاً إلى قواعد أخرى وعلاقات جديدة، أي للوصول إلى نظم ثانية.

لست متشائماً. ما حدث كان بكل المقاييس هزة أو زلزالاً، ولا يتوقع من الهزات والزلازل أن تعقب إلا الخراب والعصف. ما حدث كان هذا الخراب، وما نحن فيه الآن هو هذا الخراب.

هذا الهبوب وذلك الهياج قد يكونان بمعنى آخر دخولاً في التاريخ فما خرجت منه هو لا تاريخية مزمنة. ما خرجت منه هو المكوث خارج الزمن وخارج العصر وخارج العالم. لقد دخلت التاريخ ولهذا ثمنه الدموي والعاصف. لقد دخلت التاريخ، وجدت لأول مرة شعوب في الساحة، ابتكرت شعوب لم تكن حاضرة منذ دهور. قامت شعوب ولهذا ثمنه ولا بد أن تكون الجزية ثقيلة هائلة.

صعد الإسلاميون، الإخوان المسلمون والنهضة وسواهما، إلى السلطة. هؤلاء لم يتربوا على الحرية، ولم تكن يوماً في خطاباتهم وقواميسهم. بل نحن لا نخطئ إذا قلنا إن أفكارهم عن الخلافة الراشدية قد تكون أقرب إلى الاستبداد. ثم إن الحرية، حرية التعبير والمعتقد قد تكون بالنسبة لهم كفراً، إذ لا حرية مع الشريعة ومع الأمر الإلهي. يبدو ذلك، لأول وهلة انتكاساً، لكن الإسلاميين صعدوا إلى السلطة كجزء من حراك اجتماعي حمل أيضاً القوى المعارضة لهم، صعد الإسلاميون ووجدوا مقابلهم شارعاً حامياً. وجدوا مقابلهم قوى حقيقية. وجدوا أمامهم صراعاً غير معتاد ولا قبل للمجتمع به.

لست متشائماً. إننا ببطء ندخل في السياسة. ثمة قوى تتحرك وتساجل ولا يمكن بعدُ إجبارُها على التقاعد أو الكلامُ باسمها ونيابة عنها. لن يكون الاستبداد بعدُ دين السياسة الطبيعي، لست متشائماً إننا ندخل إلى التاريخ وإلى السياسة.

عباس بيضون

(السفير) 7/12/2012

العدد 1104 - 24/4/2024