تركيا… وتبعات سياسة أردوغان الداخلية والخارجية

تعيش تركيا منذ انتخاباتها البرلمانية الأخيرة، واحدة من أدق المراحل وأصعبها، التي مرت بها في الفترة  الأخيرة على الصعد كافة، الداخلية وعلى تعاملها مع دول الجوار وعلى علاقاتها الإقليمية والدولية أيضاً.

وتزداد تعقيدات هذا الوضع التركي، منذ بدء الأزمة (الداخلية) السورية والموقف المنحاز الذي اتخذته حكومة رجب طيب أردوغان الداعم (للمعارضات) الخارجية السورية من جهة، والتدخل في الشؤون الداخلية السورية من جهة أخرى وانعكاساتها على علاقات تركيا مع جوارها.

فقد أدت الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في 12 حزيران عام 2011 والتي تنافس فيها 15 حزباً إلى برلمان يتشكل من أربعة أحزاب والمستقلين (حصل حزب العدالة والتنمية- حزب أردوغان- على 49 بالمئة من أصوات الناخبين، وعلى 326 مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان ال ،550 فيما حصل حزب الشعب الجمهوري بزعامة كمال كيلتشدار على 9,25 بالمئة وعلى 135 مقعداً، ونال الحزب القومي بزعامة دينيلت باتيشلي على 13 بالمئة وعلى 53 مقعداً، وحزب السلام والديمقراطية المؤيد لحزب العمال الكردستاني والمستقلين على 9,5 بالمئة وعلى 36 مقعداً.

ورغم فوزه بالأغلبية البرلمانية للمرة الثالثة، بعد انتخابات عام 2002 وعام ،2007 فإن حزب العدالة والتنمية الذي يحكم البلاد منفرداً، لم يستطع الحصول على 367 مقعداً تؤمن له الحق في تعديل الدستور، ويعاني برلمانياً من سوء العلاقة مع جميع الأحزاب البرلمانية التركية، وتتعارض سياسته الداخلية والخارجية مع سياسات هذه الأحزاب، فضلاً عن تعارضه مع الأحزاب غير البرلمانية، وبخاصة اليسارية منها، وسوء العلاقة وتداعياتها مع المؤسسة العسكرية أيضاً.

وتعاني تركيا وضعاً داخلياً مأزوماً بسبب من سياسات حكومة أردوغان، كما تعاني تعقيدات التركيبة الديمغرافية المتعددة الأعراق والإثنيات، وبخاصة العلاقة مع الأكراد الذين يمثلون نحو 20 بالمئة من السكان. كما ساءت العلاقة مع الأقلية العربية ومع العلويين الأتراك إثر المواقف التركية المنحازة ضد سورية، وكيفية تعامل أردوغان مع الأزمة السورية (الداخلية) ودعمه العلني- الرسمي للمعارضات، وصولاً إلى أن تصبح تركيا قاعد الارتكاز للمجموعات المسلحة الإرهابية السورية، وإقامة مقرات لها، وعقد العديد من لقاءاتها ومؤتمراتها في تركيا، وإقامة مخيمات مغلقة في وجه المؤسسات الإنسانية الدولية للاجئين السوريين، واستخدامها كقواعد لهذه المجموعات ومراكز تدريب، ودعم لوجيستي. وأدى هذا الموقف (الأردوغاني) من الأزمة السورية إلى قطع العلاقات التركية – السورية، وتالياً الشلل في حركة الصادرات التركية إلى المنطقة العربية، إثر إغلاق الحدود السورية- التركية التي وفرت سابقاً ممراً استراتيجياً وحيداً لتركيا إلى المنطقة العربية، وانعكاساتها على الأتراك المعنيين، وعلى الاقتصاد التركي عموماً.

ويضاف توتير العلاقة التركية – السورية إلى مجموع العلاقات غير (الطيبة) مع دول الجوار التركي، ولكل منها خصوصياته وتبعاته (بلغاريا- روسيا- أرمينيا- العراق – اليونان)، فضلاً عن استمرار الأزمة الداخلية وعدم توصل أردوغان إلى (مصالحات) تركية داخلية مع الأقليات، وبخاصة الكردية التي ازداد نشاطها العسكري مؤخراً، وتالياً تبعاته على الوضع الداخلي التركي.

وسقطت نتيجة هذه السياسة نظرية وزير الخارجية أحمد أوغلو، المتمثلة في (تصفير المشاكل التركية)، وخاصة مع دول الجوار. كما لم تنجح تركيا حتى تاريخه في الوصول إلى نتائج إيجابية، ولو أولية، حول انضمامها إلى الاتحاد الأوربي. ويؤكد المراقبون عدم إمكان تحقيق هذا الهدف في المدى القريب على الأقل، نتيجة معارضة غالبية دول الاتحاد لهذه العضوية، رغم أنها تمثل إحدى الدول الأساسية في حلف الناتو. ولم تنجح الإدارات الأمريكية في الضغط على الاتحاد الأوربي حول العضوية التركية.. وتركزت هذه العلاقة الثنائية على دور تركيا في حلف الناتو وتدخلاتها في الشؤون الداخلية لجمهوريات آسيا الوسطى (السوفييتية سابقاً) وتبعاتها السلبية على هذه الدول. كذلك على روسيا وإيران خصوصاً.. فضلاً عن طبيعة العلاقة الأردوغانية ودعمها ل(ثورات الربيع العربي)، وبخاصة القوى الإسلاموية السياسية والإخوانية تحديداً.. وانحصرت بذلك العلاقات التركية مع هذه الحركات الإخوانية المنسجمة مع سياسات حزب العدالة والتنمية، ومع المحور القطري- السعودي (رغم التباينات العديدة في مواقف هذا المحور).

وبرغم الانعكاسات السلبية الداخلية لهذه السياسة التركية اقتصادياً واجتماعياً، فإن العلاقات الخارجية تكاد تنحصر في العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، واستخدام الإدارة الأمريكية أنقرة ورقة في المتغيرات والتباينات الجارية في المنطقة. وتأثر هذا الدعم الأمريكي لتركيا بسبب مواقف دول الجوار، وعدم رغبة الإدارة الأمريكية في الدخول مباشرة على خط إشكاليات المنطقة (بعد تجربتي التدخل في  العراق، واضطرارها للانسحاب المذل منه لاحقاً، وتحديد عام 2014 موعداً للانسحاب الأمريكي المفترض من أفغانستان).

وبسبب تناقض سياسة حكومة أردوغان ومواقفها من الأحزاب البرلمانية التركية وغيرها، إلى عدم القدرة على حل الإشكاليات العرقية – الإثنية الداخلية، مروراً بالصعوبات الاقتصادية، وبخاصة بعيد الأزمة السورية وانعكاساتها. فضلاً عن فشل سياسة (تصفير المشاكل)، إلى التوتر مع دول الجوار، وعدم النجاح في الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، تجد تركيا نفسها في عزلة إقليمية عملياً من جهة، وازدياد التحركات الشعبية والمظاهرات شبه اليومية المناهضة لحكومة أردوغان من جهة ثانية، والمترافقة مع الانتقادات الرسمية الحادة للأحزاب التركية لهذه السياسة. وتؤكد بمجموعها خصوصية الحالة التركية وحراجتها.. وبالتالي سقوط نظرية (تصفير المشاكل)، وازدياد توتر العلاقات الخارجية مع جوارها والعديد من حلفائها السابقين.. فضلاً عن الانتهازية السياسية التركية في ازدواجية العلاقة مع الملف الفلسطيني – الإسرائيلي، والنفاق الذي تمارسه عملياً في هذا السياق.

كما تؤكد هذه الحالة بروز العديد من الانتقادات الداخلية في حزب العدالة والتنمية لسياسة حكومة أردوغان المتزامنة مع ازدياد الحركة الشعبية المناهضة لها، والتي لم تشهدها تركيا سابقاً. وتضاف إلى التباينات المعلنة بين تركيا وتطلعاتها في المنطقة مع مواقف الغالبية الساحقة من دول الناتو، التي تؤكدها التصريحات المتناقضة المتكررة، وعجزها عن الوصول على لغة مشتركة مع الحلف، رغم نشر بعض دول الحلف (ألمانيا، هولندا، الولايات المتحدة) بطاريات باتريوت على الحدود التركية- السورية مؤخراً، وهذا ما يضع حكومة أردوغان وحزبه في حالة حرجة وخاصة، للمرة الأولى منذ توليه السلطة. ويفترض منطقياً مراجعتها من قبل حزب العدالة والتنمية أولاً، وتبعاتها السلبية على العلاقات التركية الخارجية عموماً. كما أن دعم تركيا للمجموعات الإرهابية وتمريرها إلى سورية لن يبقي الساحة التركية بعيدة عن الأخطار، وارتهانها للسياسات الأمريكية وحسابات الناتو لن يبقي مصالحها ومصالح الدول الغربية خارج دائرة الخطر.

العدد 1105 - 01/5/2024