جولة كيري الشرق أوسطيةأزمات مستعصية… وانتفاضة فلسطينية ثالثة في الأفق!

يصل وزير الخارجية الأمريكية إلى المنطقة في ظل الاستحقاقات الكبرى التي تواجهها الإدارة الأمريكية الجديدة- القديمة لجهة تنسيق المواقف بين أطراف الصراع. إلا أن ما يضفي على هذه الجولة لجون كيري مزيداً من الخصوصية، أنها ستمهد لوصول الرئيس أوباما الذي قرر المبادرة والتوجه إلى المنطقة في 20 و21 آذار الحالي، في خطوة تشير إلى عزمه على فرض إيقاع مدروس وضوابط محددة لمواقف وسلوك قادة العواصم التي ستشملها الزيارة عامة، ولطرفي الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي خاصة.

وعلى الرغم من أن جدول أعمال الزيارات بات معلناً على لسان وزير الخارجية الأمريكية جون كيري، الذي أوضح أمام وسائل الإعلام أن (جولته وجولة الرئيس أوباما ستشمل البرنامج النووي الإيراني، وتداعيات الوضع السوري على أمن المنطقة، وعملية التسوية على المسار الفلسطيني- الإسرائيلي).

وتوقع كيري أن يوجه الرئيس أوباما رسالة قاطعة إلى الحكومة الإسرائيلية، تتعلق بالمسألة الفلسطينية التي سيجري بحثها في الزيارة، على نحو معمق.. كذلك لفت إلى أن الرئيس أوباما قد يوجه (مذكرة للحكومة الإسرائيلية)، صاغها ثلاثة من وزراء الخارجية الكبار في أوربا هم: البريطاني وليم هيغ، والألماني غويدو فسترفيله، والفرنسي لوران فابيوس. وتقول المذكرة إنه (في حال واصلت إسرائيل سياستها في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولم تعمل على المضي قدماً للمفاوضات مع الفلسطينيين، فستفرض عليها عقوبات شديدة)!

الآفاق مفتوحة لانتفاضة ثالثة

مشاهد المواجهات الدائرة في المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في الأراضي المحتلة مع جنود الاحتلال وقطعان المستوطنين تستحضر صورة الأيام الأولى من الانتفاضة الشعبية الكبرى عام 87-،93 إذ يتوجه الآلاف من الشبان الفلسطينيين إلى نقاط الاحتكاك مع جيش الاحتلال عند الحواجز والمعسكرات والمستوطنات، ويخوضون مواجهات لا تهدأ معهم، على الرغم من أنهم لا يمتلكون سوى الحجارة والإطارات المشتعلة والزجاجات الحارقة.. المشهد نفسه، لكن بظروف موضوعية وذاتية، أكثر تعقيداً، إذ يحاول أمن السلطة الفلسطينية منعهم من الوصول إلى نقاط المواجهة، فيما تحاول فصائل العمل الوطني متأخرة اللحاق بالشارع الغاضب.

ووسط الحديث، إما تحذيراً أو تبشيراً، باندلاع انتفاضة ثالثة، يبقى الأسرى في سجون الاحتلال المحرك الأهم للمواجهات والتصعيد، وتظل (قضية الأسرى) المتفاقمة والمفتوحة الحافز الأبرز لنزول الفلسطينيين إلى الشارع بعد سنوات الانقسام الداخلي والصراع على السلطة، أو معها، وتنطلق أصوات إسرائيلية وفلسطينية لتأكيد أن (إبقاء هذا الملف مفتوحاً يعني أن المواجهة مستمرة ومتصاعدة، وأن السلام بعيد المنال). وتحمل الصحف الإسرائيلية دعوات صريحة لتجنيب إسرائيل انتفاضة ثالثة، وإعادة الهدوء إلى الضفة الغربية.. أما زعيم حزب الليكود اليميني المتشدد نتنياهو فيسارع إلى الإفراج عن عائدات الضرائب، وإرسالها إلى خزينة السلطة، في محاولة لدفع السلطة لبذل جهد أكبر لتهدئة الشارع، لكن شبان الانتفاضة في نقاط المواجهات بعيدون كل البعد عن تصريحات (معسكرَيْ السلام) لدى الجانبين، بعيدون عن تصريحات مسؤولي السلطة الفلسطينية حول (توتير إسرائيل للأجواء أثناء زيارة كيري الحالية، وقبل زيارة أوباما المرتقبة). وبعيدون عن موقف فصائل العمل الوطني التي (تلوح بعدم التهاون مع أي خطر يمس أسيراً في سجون الاحتلال)، إذ تتردد في المظاهرات الشعبية شعارات تستنكر موقف السلطة والفصائل على حد سواء، وتدعو الشعب بكل مكوناته وأطيافه السياسية والاجتماعية إلى المشاركة الفاعلة لإنقاذ الأسرى الذين باتوا وحيدين في المواجهة، ومن خلفهم عائلاتهم التي باتت، بعد استشهاد الأسير عرفات جرادات في حالة قلق دائم على أبنائهم في السجون.

يترافق كل ذلك مع حملات اعتقالات يشنها يومياً جيش الاحتلال، ويقضي الأسرى بعدها فترات طويلة دون معرفة أي تفاصيل حول أماكن اعتقالهم أو التهم الموجهة إليهم، كما يمنع في بعض الأحيان المحامون من زيارتهم. يضاف إلى ذلك مواصلة عدد من الأسرى إضرابهم عن الطعام.

في المواجهات المستمرة يعاد الاعتبار إلى جميع أشكال المقاومة، وفي مقدمتها (المقاومة الشعبية) كما مارسها الشعب الفلسطينية في انتفاضته الكبرى عام 87-،93 بعد محاولة السلطة دفعها باتجاه (التظاهرات السلمية) تأخذ طابعاً استعراضياً ولا تشكل تهديداً أمنياً واستنزافاً لجيش الاحتلال. ويتأكد عبر هذه المواجهات دور الشباب والنساء في قيادة التظاهرات ومنحها زخماً شعبياً.

ومع كل هذا يعاد الاعتبار إلى قضية الأسرى، باعتبارها قضية سياسية ووطنية بامتياز، وإلى الأسرى كطليعة للحركة الوطنية التحررية والديمقراطية، ولا تخفى محاولة جيش الاحتلال تجنب تفاقم المواجهات عبر إبعادها عن الشوارع الرئيسية الواصلة بين المدن والبلدات الفلسطينية والسيطرة عليها بأقل الخسائر وسط قناعة راسخة مفادها أن (انفجار الضفة الغربية خط أحمر) في اعتبارات الأمن الإسرائيلي. ولايزال حاضراً في أذهان قادة جيش الاحتلال، حسب المحللين، ما جرى خلال الحرب الأخيرة على غزة، حين شكل انفجار الأوضاع الأمنية في الضفة الدافع الأهم للجنوح إلى التهدئة في غزة.

 

أزمات عالقة وأوضاع متفجرة

تشهد الساحة الفلسطينية استحقاقات مهمة، أبرزها المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، التي لا يتوقع إتمامها خلال الفترة الزمنية المرئية، بسبب اختلاف الرؤى والأيديولوجية فيما يتعلق بحل الصراع مع إسرائيل. وربما ستنطلق جولة جديدة من الحوار برعاية مصرية بين فتح وحماس لإنقاذ ماء الوجه. ولكن التوصل إلى مصالحة تامة بين الفصيلين الرئيسيين أمر متعثر اليوم، لأن أصل الخلاف سياسي وتنظيمي وأمني، وهو خلاف عميق، وما لم يتفق الطرفان على رؤية سياسية وتنظيمية وأمنية مشتركة، فإن الاختلاف أقرب من المصالحة.

وبالنسبة إلى عملية السلام مع إسرائيل، يتوقع أن تستمر في الجمود والتراجع، على الرغم من جولة كيري وأوباما، لأنها ستشهد مزيداً من الاستيطان الإسرائيلي ومتابعة تهويد القدس، مقابل تمسك السلطة الفلسطينية بمفاوضات عبثية لن تؤدي إلا إلى مزيد من ضياع الأراضي وتهجير الفلسطينيين، خصوصاً بعدما فاز اليمين الإسرائيلي المتشدد في الانتخابات الأخيرة. يرافق ذلك تأييد أمريكي أعمى لإسرائيل، وانشغال عربي بالقضايا الداخلية في ظل الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها حكومات المنطقة.

ومن المرجح أن تؤدي المخاطر العديدة التي تكتنف الشرق الأوسط إلى إذكاء نار الصراع، وليس إلى السلام. ويمكن تصنيف العام 2013 عاماً حرجاً ومقلقاً بالنسبة لأمن إسرائيل، إذ ستواجه إسرائيل عاصفة قوية من التوجهات الإقليمية التي يحتمل أن تكون تراجيدية.. فإسرائيل في موقع ترى فيه التوجهان الكبيران في منطقة الشرق الأوسط وهما: تهديد طموحات الهيمنة الإيرانية، وانتشار المد السلفي الراديكالي. ورغم أن هذين التوجهين متناقضان فيما بينهما، إلا أن حرب (عمود السحاب) على قطاع غزة، واندلاع انتفاضة الأسرى في الضفة الغربية، قد أبرزا تقسيماً متقناً للعمل الوطني الفلسطيني.

ويرى معظم الخبراء أن عقارب الساعة قاربت نقطة التقاطع فيما يتعلق بالدراما الطويلة الأجل، حول المواجهة مع إيران، على الرغم من العقوبات الدولية القاسية، تتجه إيران نحو صنع (قنبلتها النووية). ويرجح أن تعرض إدارة أوباما على إيران (صفقة كبرى) بشأن برنامجها النووي، إلا أن المرشد الأعلى قد يرفض عرضاً سخياً، لأنه قد يكون القشة التي تقصم ظهر سيطرته على السلطة.

وبالنسبة للرئيس أوباما القادم إلى المنطقة، والذي اعتنق (مبدأ الوقاية)، فإن ذلك لا يجعل (الحل العسكري) خياراً مستبعداً، وربما تحدث المواجهة مع إيران في الوقت الذي يواجه فيه جيران إسرائيل الفلسطينيون، انهيار ما تبقى من إطار اتفاقية أوسلو، واندلاع انتفاضة شعبية ثالثة.

والقضية الأساسية الراهنة تتعلق بالرفض الفلسطيني لمفهوم (الدولة اليهودية النقية)، والتمسك بإقامة دولة فلسطينية سيادية وعاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم وفقاً لمضمون القرار الأممي رقم 194. وتتعلق أيضاً بالجاذبية القوية للمقاومة التي تمثلها انتفاضة الأسرى المندلعة حالياً، كما تتعلق بحالة اللامبالاة الصاعقة للدول العربية نحو تقديم الدعم الدبلوماسي والمالي للشعب الفلسطيني.

كما أن القضية ترتبط أيضاً بالانقسام بين الإسرائيليين حول ما إذا كانوا راغبين في تحمل تكاليف سياسية واجتماعية للتوصل على تسوية شاملة وعادلة ودائمة. يحدث هذا في مرحلة تنتاب فيها الشكوك الأصدقاء والأعداء في المنطقة بشأن جولة كيري وأوباما خاصة، والدور الأمريكي عامة. إذ تمضي جميع التطورات والتفاعلات دون الكثير من الوضوح من جانب واشنطن. ومن المستحيل معرفة ما إذا كان التردد وعدم الوضوح الأمريكي قراراً استراتيجياً، أم إشارة إلى تبدل الأوّليات، أم انعكاساً للتردد الاستراتيجي. الأمر الذي يؤكد الفجوة بين الالتزام والتنفيذ.

إن تداعيات هذا التردد واضحة للعيان في جميع القضايا التي هي على أجندة الجولة العتيدة للوزير كيري والرئيس أوباما.

العدد 1104 - 24/4/2024