منظمة التعاون الإسلامي في عالم متغير!

لم يعد الكلام عن منظمة التعاون الإسلامي اليوم هو نفسه الذي كان يُتَداوَل خلال الأحقاب التي تلت تأسيسها في العام 1968. فلقد تغيرت البيئتان السياسية والتاريخية اللتان منحتا المنظمة حضورها في ميزان العلاقات الدولية، الأمر الذي حدا بكثير من المحللين إلى الافتراض بأن تغييراً موازياً في البيئة المعرفية لفلسفة منظمة التعاون الإسلامي ينبغي أن يحصل كمقدمة لإعادة بنائها من جديد.

ففرضية التغيير التي يستلزمها تفعيل منظمة التعاون الإسلامي، متأتية من الحاجة إلى ملء الفراغ الذي نشأ في خريطة العلاقات الدولية بسبب فشل الأحادية القطبية الأمريكية التي بلغت ذروتها في عهد المحافظين الجدد.

ولئن كانت ظروف التطور العالمي اللامتكافئ تملي على حكومات منظمة التعاون الإسلامي، وضع استراتيجية جديدة تمكنها من استعادة دورها بالتموضع في الخريطة المفترضة للنظام الدولي، فإن الظروف نفسها تنطوي على تعقيدات تجعل مثل هذا التموضع أمراً شاقاً ومعقداً، إن لم يكن مستحيلاً.. ولعل استحضار هذه التوطئة عائد إلى سببين رئيسيين:

الأول: استمرار الطبيعة المتناقضة وغير المستقرة، لحقبة ما بعد فشل الأحادية القطبية، بما تخللها من معادلات وموازين ومنظومات أمنية وسياسية كبرى ملأت العالم على مدى عقود متتالية.

الثاني: حصول تغيرات جذرية في المفاهيم التي تحكم العلاقات الدولية، وكذلك في القواعد التي كانت ترسم الخطوط الجيو- ستراتيجية للدول المنضوية في منظمة التعاون الإسلامي، فقد بدا واضحاً حجم التناقض بين كثير من الدول الأعضاء.

 

قمة خاطفة وقرارات باهتة

استضافت القاهرة قمة إسلامية (خاطفة) لا يتعدى وجود القادة والزعماء الإسلاميين فيها ال 20 من أصل ،54 والبقية على مستوى رؤساء حكومات ووزراء خارجية، وسط إجراءات أمنية مشددة (نحو 150 ألف عنصر حماية ومراقبة، وإقفال تام للعاصمة). وتغطية إعلامية كثيفة يفوق حجمها الحجم السياسي لقرارات القمة.. ولأسباب كثيرة أمنية وسياسية لم تكن القاهرة المكان المناسب لإجراء مباحثات ونقاشات معمقة أو للتوصل إلى نتائج استثنائية. ولكن بغض النظر عن النتائج،  فإن مجرد انعقاد القمة الإسلامية في القاهرة، هو (حدث وإنجاز) بالنظر إلى ماتحويه وما يحيطها من تحديات وظروف ودلالات رمزية.

1- بقدر ما تشكل هذه القمة من عودة العرب والمسلمين إلى مصر بعد طول انقطاع، تشكل أيضاً بداية عودة مصر إلى العالمين العربي والإسلامي بعدما ذهبت بعيداً في سياسة وعلاقات (الجوار الإقليمي) – إيران بدرجة كبيرة، وتركيا بدرجة أقل- فأتاحت هذه القمة لمصر فرصة أولى لاستعادة حضورها السياسي في المنطقة والإقليم، من دون أن يعني ذلك استعادة الدور والتأثير، كلاعب أساسي مادام الانشغال بالمشكلات الداخلية قائماً.

ولأن القمة مهمة، فقد عملت القاهرة على عدم إفلات هذه الفرصة، وعدم إضاعتها، وأصرت بعد تأخير عام كامل على انعقادها متجاوزة الظروف الداخلية غير المشجعة أمنياً وسياسياً بفعل الخلافات المتصاعدة بين القوى والأحزاب المعارضة من جهة، وحزب الحرية والعدالة الحاكم من جهة أخرى، وساعية إلى توفير شروط الانعقاد عبر بث الدفء في العلاقات العربية- العربية والإسلامية – الإسلامية.

2- إنها أول قمة إسلامية في زمن (الربيع العربي) الذي أطاح بأنظمة عديدة، وبالتالي فإنها قمة مختلفة في وجوهها، إذ كانت قمة للتعارف بين عدد من المسؤولين القدامى والجدد، وفي ظروفها الإقليمية، لأنها انعقدت في خضم مرحلة انتقالية تجتازها معظم دول (الربيع العربي) المنهمكة بأوضاعها الداخلية. في وقت تعمل الدول الأخرى على تدارك التداعيات والانعكاسات.. وهذا ما جعل قمة القاهرة الإسلامية غير فاعلة في القضايا الكبيرة، وبضمنها القضية الفلسطينية.

3- لم تكن قمة القاهرة المكان المناسب للبت في الملف السوري الذي تصدّر أعمالها، والأمر هنا لا يتعلق فقط بغياب صاحب العلاقة والطرف المعني، وإنما بالتطورات العربية والإقليمية والدولية التي أفضت إلى تغليب المسار السياسي لحل الأزمة السورية المستعصية، وإلى أن يكون هذا المسار محدداً ومختصراً في استكمال مهمة الموفد العربي والأممي الأخضر الإبراهيمي وخطته.. وبالتالي فإن الموقف الإسلامي كان تحت سيف (مهمة الإبراهيمي) ودعمها، وهو موقف لم يخرج عن الإطار والتحول في اتجاهات أخرى، وبضمن ذلك إعادة إنتاج (المبادرة العربية) وتعويمها.

 

دمقرطة التواصل الدولي.. ومستقبل منظمة التعاون الإسلامي

انطلاقاً من التشديد على احترام مبدأ المساواة بين الدول، بدت منظمة التعاون الإسلامي كما لو أنها واحدة من المنابر التي تسهم في تحديد دول الدول الكبرى وهيمنتها على اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة. وربما يؤدي هذا إلى تقوية منظمة الأمم المتحدة، وإدانة مبدأ استخدام حق الاعتراض (الفيتو). وقد أشارت قمة القاهرة الإسلامية في بيانها الختامي إلى ضرورة دعم الأمم المتحدة وضمان فاعليتها، وإلى أن مجلس الأمن يجب أن لا تواجهه العقبات التي تمنعه من القيام بأداء واجباته كما نصت عليها شرعة الأمم المتحدة، وإلى ضرورة تعديل ميثاق الأمم المتحدة استجابة لإدخال القدر الأكبر من الديمقراطية، أي (احترام قرارات الأكثرية وتنفيذها).

لقد كان الأساس في بقاء منظمة التعاون الإسلامي واستمرارها وحضورها دولياً، هو بقاء الصراع المستمر من أجل السلم والمساواة في العلاقات الدولية، ومن أجل مناهضة محاولات الهيمنة في فرض أنظمة سياسية أو أيديولوجيات معينة على الدول الأخرى.. وهذا هو الطريق الصحيح من أجل الوصول إلى تضامن واقعي بين الدول التي تبغي المحافظة على وجودها والتعبير عن هويتها وخصوصيتها الحضارية والثقافية من خلال التطلع إلى نظام دولي مناهض لكل أشكال النيوليبرالية والعولمة المتوحشة والتمييز العنصري، ورفض مناطق النفوذ، وعدم القبول بالاحتلال والتدخل الخارجي، على طريقة الحلف الأطلسي (في مالي خاصة وشمال إفريقيا عامة).

غير أن التحولات الهائلة التي أنتجتها عولمة المجتمع الدولي في ميدان السياسة والأمن والاقتصاد، جعل الكثير من المفاهيم الكلاسيكية التي تنظم العلاقات بين الدول عرضة للتبدل والمراجعة. وإذا كان مبدأ حق النقض (الفيتو) مبدأ مذموماً في فلسفة منظمة التعاون الإسلامي، فإن تطورات الوضع العربي الأخير، جاءت لتمنحه (أحقية الاستخدام) بوصفه إجراء يمنع الخلل الحاصل في التوازانات الدولية، ويحول دون نشوب حروب احتلال، كما حصل في أفغانستان والعراق سابقاً، وليبيا ومالي لاحقاً.

وفي المجال عينه، ربما كان من أبرز العلامات الفارقة التي تدفع اليوم منظمة التعاون الإسلامي نحو المبادرة لبلورة منظومة توازن استراتيجي في العلاقات الدولية، ما يمكن إجماله على النحو التالي:

أولاً: حصول تحول في المشهد الأمريكي حيال العالم، تمثل في انتقال الولايات المتحدة من طور التحكم في تشكيل نظام الأمن الدولي، إلى طور آخر، بدت معه التعددية والشراكة من أبرز سماته.

ثانياً: مغادرة كل من روسيا الاتحادية والصين الشعبية (كهف الصمت) ودخولهما معاً فضاء المواجهة مع المحور الأمريكي الغربي.

ثالثاً:تبدل جوهري في البيئة العربية والإسلامية، ظهرت معالمها في مستهل عام 2011 من خلال تحولات مدوية عصفت بالشارع العربي والإسلامي، وأسقطت أنظمة استبدادية في مصر وتونس وليبيا واليمن. وعلى الرغم من المشهد الرمادي الذي أسفرت عنه التحولات المشار إليها، فقد انفتح الوطن العربي انطلاقاً من مصر، على زمن تاريخي جديد، إنه الزمن الذي يسمح لقوى التحرر الوطني- أحزاباً وتيارات- من وضع استراتيجيات عملية ترفد منظمة التعاون الإسلامي بقدرات إضافية تتيح لها المشاركة في صناعة النظام الدولي المتكافئ.

رابعاً: شكلت التطورات التي مرّ ذكرها، دفعاً مهماً لتشكل (تقاربا إسلامياً جديداً) في شبه (القارة الشرق أوسطية)، إذ تتبوأ كل من إيران ومصر وتركيا مقاماً فاعلاً وأساسياً فيه، الأمر الذي يفضي، بالتقارب والتعاون المذكور، إلى أخذ مساحة وازنة من القدرة تعينه على تصويب المسار التاريخي لمنظمة التعاون الإسلامي، كما يمهد لإيران السبيل لتكون شريكاً واقعياً في صياغة علاقات حسن الجوار والتعاون على مستوى الإقليم، وبضمن ذلك التشارك من تداعيات إيجابية على المستوى الدولي والإقليمي. ولم ترتق حركة عدم الانحياز ومنظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية إلى أكثر من مجموعات تشاورية في غياب الشراكات الاقتصادية الواسعة والمنافع المتبادلة.

العدد 1105 - 01/5/2024