ميدفيديف في كوبا… زيارة هامة ونتائج «دافئة»

ينظر باهتمام إلى زيارة رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف في نهاية الأسبوع الماضي، إلى كوبا، ولقائه المسؤولين الكوبيين وفي مقدمتهم الرئيس راؤول كاسترو، بوصفها خطوة نحو استعادة العلاقات الثنائية المتينة بين البلدين الحليفين، في مرحلة الاتحاد السوفييتي. كذلك بعيد (الفتور) الذي شهدته هذه العلاقة في المرحلة اليلتسينية، وصولاً إلى تفكيك روسيا لقاعدتها العسكرية الهامة في هذه الجزيرة، وانعكاساته على العلاقات الثنائية، وفي حدود ما، على التوازن العسكري الدولي أيضاً.

إذ مثلت كوبا في المرحلة السوفييتية الحليف الوحيد للاتحاد السوفييتي في القارة الأمريكية، بوصفها (جزيرة الحرية)، فضلاً عن موقعها الجيوسياسي الهام في أمريكا اللاتينية، وعلى مقربة من الحدود مع الولايات المتحدة الأمريكية، والدور النشط الذي قامت به كوبا ولاتزال تجاه حركة التقدم والديمقراطية واليسار عموماً في أمريكا اللاتينية والجنوبية.

ومع مجيء فلاديمير بوتين رئيساً لروسيا، بدأت بلاده تستعيد علاقاتها التاريخية مع حلفائها وأصدقائها، ومن ضمنهم كوبا. وتمثل زيارة ميدفيديف تتويجاً لعودة العلاقات مع (جزيرة الحرية)، وتالياً مع أمريكا اللاتينية والجنوبية، التي تشهد منذ أكثر من عقد تحولات اقتصادية وسياسية هامة تمثلت في وصول الائتلافات العريضة لقوى اليسار والتقدم في عدد من دول القارة إلى السلطة، عبر الانتخابات الديمقراطية وصناديق الاقتراع.

وقد تم التعامل سابقاً مع هذه المنطقة من القارة بوصفها الحديقة الخلفية لواشنطن، وسميت دولها بجمهوريات الموز أيضاً، وغيرت التحولات الاجتماعية – السياسية في دول القارة توجهات بلدانها، وكذلك علاقاتها القارية (منظمة أمريكا الجنوبية) كمنظمة تسعى إلى تجذير استقلالها السياسي- الاقتصادي، وكذلك علاقاتها الدولية من خلال طبيعة سياساتها وتحالفاتها، وازدياد وزنها وتأثيرها الدولي.

وساهمت كوبا بفعالية في تعزيز هذه التحولات وإنجاحها واستمرارها من خلال الدعم السياسي والعلمي والكادري، وشكلت بذلك مثالاً للصمود في وجه التدخلات الخارجية للولايات المتحدة، وفي تغيير علاقة هذه الدول مع الولايات المتحدة لصالح توجهات استقلالية عن سياسات واشنطن. إذ تشارك البرازايل (إحدى الدول الكبرى في القارة) في مجموعة (بريكس) الدولية التي تضم إلى جانب روسيا الاتحادية، الصين والهند وجنوب إفريقيا، وتعزز كذلك العلاقات الاقتصادية والعسكرية الروسية – الفنزويلية، ومع غيرها من دول القارة.

وكان طبيعياً أن تستعيد العلاقة الروسية – الكوبية تعافيها، في ظل الدور الذي لعبته ولاتزال كوبا قارياً، وفي ظل استعادة روسيا لعلاقاتها التاريخية السابقة، وخاصة مع حلفائها السابقين، بعد أن صححت موسكو توجهاتها الروسية، وعادت بفضل إمكاناتها، وصحة تحالفاتها الدولية بقوة إلى الساحة العالمية، وبضمنها القارة الأمريكية اللاتينية.

ومثلت تركيبة الوفد الروسي، الذي ضم اقتصاديين وسياسيين هامين، بينهم وزير الصناعة ورجال أعمال، مؤشراً روسياً على أهمية الزيارة، والتعويل على نتائجها أيضاً. إذ أعلن وزير الصناعة الروسي دينيس مانتوروف أن موسكو (ستسقط جانباً من ديون كوبا البالغة 30 مليار دولار، وهناك خطة لإعادة جدولة بقية الديون على مدى عشر سنوات قادمة). وأعلن الوفد عن تأجير كوبا ثماني طائرات روسية بقيمة 650 مليون دولار، كذلك جرى البحث في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين. ودعا ميدفيديف إلى الإلغاء الفوري للحظر التجاري – الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على كوبا قائلاً: (إن الحظر القائم هو أمر شائن ومثير للاشمئزاز. إنها رواسب الماضي، ويفترض العمل على إلغائه، وهذا سيكون في مصلحة الجميع لا الكوبيين وحدهم، ولكن للأمريكيين أيضاً).

يشار هنا إلى أن واشنطن فرضت هذا الحظر عام ،1960 ثم شددته عام ،1962 إلى الحظر الكامل عام،2009 وتعلن كوبا أن الخسائر المباشرة التي تكبدها الاقتصاد الكوبي بسبب هذا الحصار تجاوز 105 مليارات دولار.

وينظر باهتمام إلى هذه الزيارة ونتائجها، في ظل التحولات التي تشهدها القارة، وعودة (الحرارة والدفء) إلى علاقات روسيا مع بلدانها، وأهمية ذلك في ظل التوازنات الدولية الجديدة، والآخذة في التبدل لصالح الدول الساعية إلى توازن العلاقات الدولية، وبدء أفول نظام الأحادية القطبية الأمريكية، وما تمثله دول الجوار الأمريكية في هذا التبدل القاري والدولي الجاري.

وفي الوقت الذي أصرت فيه الإدارة الأمريكية على استكمال نشر منظومة الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ، وصولاً إلى تركيا ودول الجوار الروسي الأوربية، ومخاطرها على الأمن الروسي، وتالياً على موازين القوى العالمية.

وتزداد أهمية هذه الزيارة لأنها تستند إلى ماض تحالفي من جهة، وإلى مصلحة الدولتين في تصحيح العلاقات الثنائية التي شابها (فتور) في الأعوام الأخيرة من جهة ثانية. وفي الوقت الذي تعود فيه روسيا بقوة إلى الساحة الدولية، فإنه من المنطقي استعادة العلاقات التاريخية السابقة مع العديد من الدول الصديقة والحليفة في المرحلة السوفييتية، كذلك توسيع إطار هذا التعاون مع الدول الأخرى، وبخاصة تلك التي تشهد تحولات اقتصادية – سياسية هامة، توفر الأرضية لعلاقات متوازنة تلبي مصالح أطرافها، وبضمنها كوبا، التي صمدت ولاتزال في وجه الحصار الأمريكي، وفي التحولات التي شهدتها ولا تزال أيضاً القارة الأمريكية اللاتينية والجنوبية.

وهذا ما يعزز بالمحصلة التغيرات التي يشهدها عالمنا نحو التعددية القطبية، وضرورة العودة إلى المؤسسات والهيئات الدولية، وفي المقدمة الأمم المتحدة، واحترام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية والالتزام بها لما فيه مصلحة كوكبنا أولاً وأخيراً، كما يعزز استقلال دول القارة  اللاتينية ومنطقة الكاريبي اللتين عانتا نهب الشركات الأمريكية، وتدخل وكالة الاستخبارات المركزية في شؤونها الداخلية لعقود طويلة.

العدد 1105 - 01/5/2024