الولايات المتحدة في الشرق الأوسط «الربيــع العـربي»

منذ الحرب العالمية الثانية تحركت السياسة الخارجية الأمريكية بين قطبين – تحقيق مثالها الديمقراطي من جهة، ومصالحها الأمنية والاقتصادية من جهة أخرى. وجاء (الربيع العربي) ليفاقم هذه المعضلة، لأن نتائج الانتخابات الحرة في أعقاب سقوط الأنظمة المتحالفة تقليدياً مع الولايات المتحدة في العالم العربي أفرزت حكومات تحت قيادة الإسلاميين. ورغم تاريخ هؤلاء المعادي للولايات المتحدة وانتقاداتهم الشديدة لدورها في المنطقة، شعرت واشنطن بأنها ليس بوسعها الاختلاف علناً مع نتائج الانتخابات الديمقراطية هذه. وأدخلت انتصارات الإسلاميين العلاقات بين الولايات المتحدة ودول مختلفة في المنطقة مرحلة السيولة. وبدا الأمر واضحاً في مصر، إذ فاز محمد مرسي، رجل (الإخوان المسلمين)، بالرئاسة في حزيران 2012. وهو ما جرى أيضاً في تونس، إذ فاز حزب النهضة، الذي كان محظوراً في السابق، بمعظم المقاعد. وكذا في اليمن، إذ فاز الإسلاميون بدعم واسع. أما ليبيا فهي الدولة الوحيدة التي هزم فيها المعتدلون الإسلاميون، وفيها هوجمت القنصلية الأمريكية وقتل السفير في بنغازي ما جدد القلق في واشنطن.

وثمة أهمية خاصة لمثلث علاقات القاهرة – واشنطن – القدس. وصعود (الإخوان المسلمين) إلى الحكم في مصر، شكل التحدي الأكبر للسياسة الأمريكية عام 2012. وكما تصرفوا في أماكن أخرى، نسج مسؤولو الإدارة الأمريكية بحذر علاقات ديبلوماسية مع الحكم المصري الجديد عبر السعي للحفاظ على توجه مصر الموالي للولايات المتحدة والتزامها بالسلام مع إسرائيل. وقبل التطهير الذي أجراه مرسي في صفوف الجنرالات في مصر، سعت إدارة أوباما للحفاظ على علاقات وثيقة مع الجيش، مؤمنة بقدرته على مواصلة امتلاك نفوذ على السياسة الخارجية المصرية.

وواجهت العلاقات الثنائية المصرية الأمريكية الأزمة الهامة الأولى في مطلع عام ،2012 قبل انتخاب مرسي، حينما اعتقل الأمن المصري 43 مواطناً أمريكياً يعملون في منظمات غير حكومية تساعد على نشر الديمقراطية في مصر. ولاحقاً في أيلول ،2012 اقتحم متظاهرون أسوار السفارة الأمريكية في القاهرة في ظل موقف ضعيف من أجهزة فرض القانون المصرية. ودعا (الإخوان المسلمون) لتظاهرات أخرى ضد الولايات المتحدة. وعلى هذه الخلفية، حذر الرئيس أوباما الرئيس مرسي من أن العلاقات مع الولايات المتحدة ستتعرض للخطر إذا لم تفلح السلطات المصرية في حماية الديبلوماسيين الأمريكيين، وإذا لم تتصرف بشدة ضد الاعتداءات على الأمريكيين. وفي مقابلة مع تلفزيون (تلموندو) بعدها بيوم قال أوباما عن العلاقات مع مصر: (إنني لا أعتقد أننا نرى بهم حليفاً، لكننا لا نرى بهم عدواً.. وأعتقد أن هذه سيرورة تتطور، ولا ريب في أننا نتوقع منهم راهناً الرد إيجاباً على مطلبنا الحازم بحماية سفارتنا والعاملين فيها).

ويتوقع أن تكون القضية السياسية المركزية بين مصر والولايات المتحدة المحافظة على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، التي أنجزت ووقعت برعاية أمريكية. وقد كشفت عملية (عمود السحاب) العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة الوضع الهش للعلاقات بين الدولتين الجارتين: صحيح أن (الإخوان المسلمين) لم يهددوا رسمياً بإلغاء معاهدة السلام، كما لم تطلب مصر رسمياً تغييرها، لكن الرياح في القاهرة منذ صعود (الإخوان) خفضت أكثر حرارة العلاقات الديبلوماسية التي ورثتها حكومة (الإخوان المسلمين) عن نظام مبارك، والتي كانت أصلاً باردة.

وفي ضوء نفوذ (الإخوان المسلمين) على حركات شقيقة في الدول العربية الأخرى، مهم للولايات المتحدة وإسرائيل الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع النظام الجديد في مصر. والأمر يتطلب جهداً هائلاً ونيات طيبة من الحكومات الثلاث الضالعة. ويمكنها أن تبدي ضبطاً للنفس في قضايا فلسطينية، وبضمن ذلك مواجهة عنيفة أخرى في قطاع غزة، وأيضاً في مواجهة نشاطات فلسطينية في الضفة الغربية، وفي الحلبة الدولية. ويمكن للعلاقات في المثلث الإسرائيلي – المصري – الأمريكي أن تبلغ ذروة التوتر في حال عملية عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية.

وليس ثمة مثال أفضل على التغيير في موقف الولايات المتحدة تجاه (الربيع العربي) ووعيها لمحدودية قدرتها على التأثير في الأحداث أكثر من تدخلها في الانتفاضات في سورية وليبيا. وهناك فوارق جوهرية بين الحالتين: في ليبيا لم تكن معارضة دولية لاستخدام القوة، وأيضاً لم يكن يتوقع أن تكون لذلك عواقب على مناطق أخرى. وفضلاً عن ذلك فإن المعارضة الليبية بدت موحدة أكثر مما في سورية، والفوارق القبلية فيها لا تشبه في شدتها الخلافات العرقية، الدينية والسياسية في سورية. وظاهرياً، كانت العقبة الأساسية للتدخل في سورية أوسع بسبب مواقف روسيا والصين في الأمم المتحدة. غير أن المسؤولين الأمريكيين أعربوا مراراً عن خشيتهم من الدفاعات الجوية والصواريخ السورية.

وقد شرح رئيس الأركان المشتركة، الجنرال مارتين دمبسي وفي شهادته أمام لجنة الخدمات المسلحة لمجلس الشيوخ في آذار 2012 المصاعب التي تعترض العمل العسكري في سورية قائلاً:

(إن القدرة على القيام بضربة واحدة على شكل غارة سيكون في متناول أيادينا. لكن القدرة على القيام بحملة مستدامة على المدى الطويل يمكن أن تشكل تحدياً، ويجب أن تتم في سياق الالتزامات الأخرى حول العالم. وأنا سأقول هذا فقط عن دفاعاتهم الجوية: إذ لديهم أنظمة للدفاع الجوي أكثر تطوراً نحو خمس مرات من تلك التي كانت موجودة في ليبيا، وهي تغطي خمس المساحة. وكل دفاعاتهم الجوية منتشرة على حدودهم الغربية، التي يتركز فيها سكانها. (من تقرير رئيس الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارتين دمبسي أمام لجنة القوات المسلحة في الكونغرس حول سورية 7 آذار 2012)).

وينبغي الأمل بأن هذه الحجج لن تخدم الولايات المتحدة ضد مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية.

إن وصول وسائل قتالية لأيدي جماعات إرهابية يوفر سبباً إضافياً لانعدام رغبة الولايات المتحدة في مساعدة المعارضة لنظام الأسد. فتجارب الولايات المتحدة في أفغانستان ما بعد الاتحاد السوفييتي وليبيا بعد القذافي، دفعت الإدارة الأمريكية للخشية من مغبة تزويد المنتفضين في سورية بسلاح متطور، الأمر الذي قد يتوجه لاحقاً ضد حلفاء مثل إسرائيل، أو حتى ضد مواطنين أمريكيين. وفي تقرير سري للإدارة قيل: إن إرسال أسلحة للمتمردين السوريين، على أيدي السعودية وقطر، وصلت لأيدي متطرفين إسلاميين، ضمنهم ذوو علاقة مع القاعدة، وليس لمجموعات معارضة علمانية أرسلت الأسلحة إليها. وتشكك خلاصات التقرير بقدرة استراتيجية البيت الأبيض – التدخل غير المباشر- على تحقيق الهدف المعلن. وعلى هذه الخلفية ينبغي رؤية أقوال الرئيس أوباما، الذي كرر القول في المناظرة الثالثة عشية الانتخابات الرئاسية: إن الولايات المتحدة (ستبذل كل ما بوسعها لضمان مساعدة المعارضة السورية)، وفي الوقت نفسه وعد (بأننا لن نمنح السلاح لمن يعطونه لأناس يمكنهم في نهاية المطاف توجيهه ضدنا، أو ضد حلفائنا في المنطقة).

وحتى إذا اتخذت الولايات المتحدة خط عمل أشد ضد نظام الأسد، فإن دعم الشارع العربي لها لن يزيد بالضرورة. بل إن الحكومات العربية التي تدعو علناً لإنهاء نظام دمشق يمكن أن تنتقد الولايات المتحدة إذا تدخلت في سورية. وبغياب خيارات أفضل، فإن الولايات المتحدة ستتمسك كما يبدو بنمط عملها الحالي في (الملف السوري)، رغم قدرتها على عزل النظام بطرق ديبلوماسية، عن طريق الاعتراف بالمعارضة ممثلاً رسمياً لسورية. ومقاربة محدودية التدخل التي تنتهجها إسرائيل تتوافق مع المصالح الأمريكية. ومع ذلك، فإن الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية ملزمتان بفحص النتائج المتوقعة لسقوط حكم دمشق. وعدا الفوضى الداخلية المحتمل تواصلها عدة سنوات، فإن لاعبين إقليميين آخرين، وكذلك عدة منظمات إرهابية، يمكن أن تتدخل في الشأن السوري. وثمة سبب جدي للقلق هو السيطرة على الأسلحة التقليدية للجيش السوري النظامي، وأيضاً على مخازن السلاح غير التقليدي. وينبغي للولايات المتحدة وإسرائيل مواصلة البحث لإيجاد حلول لهذه المشاكل المقلقة.

وهناك مشكلة حساسة تتعلق بقدرة الأردن على مواجهة الضغوط ونتائج فشل المملكة الهاشمية في معالجة هذه الضغوط. فالأردن كان مجتمَعاً مستقراً في المعسكر غير الرسمي الموالي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط (باستثناء دعم غزو العراق للكويت 1990). ويمكن لإضعاف النظام الحالي أن يكون ذا تأثير دراماتيكي على النظام السياسي في الشرق الأوسط. وحقيقة أن المعارضة السياسية البارزة في الأردن هي الطبعة المحلية من (الإخوان المسلمين) هي سبب عميق للقلق، سواء في إسرائيل أم الولايات المتحدة. وحزام النفوذ (الإخواني)، في مصر، قطاع غزة والأردن، قد يثير مشاكل جدية لإسرائيل. وفي ضوء انعدام الاستقرار السياسي في العراق وسورية، فإن انضمام الأردن إلى منطقة القلاقل قد يضر بمستقبل المنطقة برمتها.

وقد سارعت الولايات المتحدة إلى تقديم عون مالي لحكومة الأردن. وينبغي أن لا تفعل ذلك فقط، بل أن تمارس الضغط على دول النفط العربية للوفاء بالتزاماتها تجاه المملكة الأردنية.

 

من التقرير الاستراتيجي لإسرائيل 2012-2013

مركز دراسات الأمن القومي جامعة تل أبيب

شباط 2013

العدد 1105 - 01/5/2024