الفاتيكان: بابا جديد من العالم الثالث… التبعات والمهمات

أعلن المتحدث باسم الفاتيكان، إثر اجتماع مجمع الكرادلة (الهيئة التشريعية العليا)، عن انتخاب البابا الجديد فرنسيس الأول، خلفاً للبابا السابق بنديكتوس السادس عشر. إذ يشكل انتخابه سابقة أولى في عملية الاقتراع، وماهية رأس الهرم للكنيسة الكاثوليكية، لأنه ينحدر من دول العالم النامي، ومن قارة أمريكا الجنوبية تحديداً.

فقد توصل مجمع الكرادلة الذي يضم 115 كاردينالاً، ممن لا يتجاوز سنهم ال 80 عاماً، يوم 13 آذار الجاري، إلى انتخاب أسقف بوينس أيرس السابق (الأرجنتيني الأصل) خورخي ماريا برجوليو، بابا جديداً للكنيسة الكاثوليكية، وذلك إثر اجتماع مغلق وفق الطقوس المتبعة دام يومين فقط.

وتصاعد الدخان الأبيض من كنيسة سيستين في الفاتيكان، في إشارة إلى نيل البابا الجديد (القديس ال 266 للكنيسة الكاثوليكية (أكثر من ثلثي أصوات الكرادلة، وذلك بعد اعتذار أسقف جاكرتا لأسباب صحية، وأسقف اسكتلندا بسبب فضيحة جنسية.

واستناداً إلى نظام الانتخابات الذي وضعه البابا يوحنا بولس الثاني عام ،1996 وأجرى عليه البابا بنديكتوس السادس عشر تعديلاً عام ،2007 والذي يشترط الفوز بأغلبية الثلثين، أي 77 صوتاً، ويحظر خلال عملية الاقتراع الدعاية الانتخابية أوعقد صفقات، بهدف إبعاد أي شبهة دنيوية عن تقلد كرسي البابوية (الحبر الأعظم).

وكان البابا بنديكتوس السادس عشر (الألماني الأصل) الذي خلف البابا بولس الثاني (البولوني الأصل) عام ،2005 قد قدم استقالته الرسمية في 28 شباط الماضي، بسبب أوضاعه الصحية (93 عاماً).

وأعلن المتحدث باسم الفاتيكان (أصغر دولة في العالم، وتقع ضمن الحدود الجغرافية للعاصمة الإيطالية روما) الأب فيديريكو لومباردي عن اقتراع مجلس الكرادلة البابا الجديد (76 عاماً)، الذي بدل اسمه إلى فرنسيس الأول، تيمناً بالقديس فرنسيس الأسيري، وأنه ارتدى ثوبه الأبيض.

وفور إعلان تنصيب البابا فرنسيس، عمت الاحتفالات الشعبية مدينة بوينس أيرس خصوصاً، والقارة الأمريكية الجنوبية واللاتينية عموماً، وسائر بلدان العالم النامي التي تنتمي إلى الكنيسة الكاثوليكية، وتوالت إثرها برقيات التهنئة من رؤساء العالم وزعمائه.

هذا في الوقت الذي وصفه فيه الكثيرون من قادة دول أمريكا الجنوبية – اللاتينية، وبضمنهم الرئيس المؤقت لفنزويلا نيكولاس مادورو، والعالم النامي، أن انتخاب بابا من العالم الثالث يمثل خطوة استثنائية إلى الأمام، وتطويراً في سياسة الفاتيكان نحو شعوب أمريكا الجنوبية واللاتينية وآسيا وإفريقيا.

وإذ يمثل انتخاب البابا فرنسيس الأول كسراً للعادات والتقاليد الكنسية الكاثوليكية السابقة، فإنه لابد من الإشارة إلى مغزى هذا الاقتراع، وإلى المهمات التي تنتصب أمام البابا الجديد، وإلى تأثيره الديني – الاجتماعي. إذ تصدر النقاش بين الكرادلة خلال المحادثات التمهيدية لانعقاد المجمع المغلق (وفق الطقوس المتعارف عليها) ملف العلاقة بين الإسلام والكنيسة الكاثوليكية، الذي سيكون بالطبع من بين القضايا الأهم، التي ستحظى باهتمام البابا الجديد، وبخاصة إثر المتغيرات التي تشهدها مؤخراً العديد من البلدان الإسلامية، وانعكاساتها على العلاقات البشرية- الاجتماعية بين الأديان المختلفة.. كذلك العلاقة مع الكنائس (الأرثوذكسية، والبروتستانية) على طريق استمرار تطبيع العلاقات بين مختلف الكنائس المسيحية، والديانات السماوية الأخرى، إذ أعلن الأزهر أيضاً أنه يأمل في علاقات أفضل مع الفاتيكان والبابا الجديد.

ويزيد من أهمية دور البابا امتلاكه ل(السلطة الإدارية العليا في الفاتيكان وتنظيم المجامع الرومانية وتعيين الكرادلة.. إلخ).. ورغم أن عملية الاقتراع تخضع لطقوس خاصة للغاية، بعضها متوارث منذ آلاف السنين، فإن نجاح الاقتراع خلال يومين فقط، تجاوز إمكان إفساح المجال لعميد مجمع الكرادلة في إدارة طرق جديدة كمصدر للتنافس بين المرشحين.

ورغم النجاح السريع في انتخاب بابا جديد، ينتمي إلى العالم النامي وهمومه ومعاناته، وما يعيشه من متغيرات، وبخاصة التقدمية واليسارية منها في القارة الأمريكية الجنوبية، ومن تفاعلات اقتصادية – اجتماعية في آسيا، ومن متغيرات دينية أصولية في العالم العربي والعديد من الدول المجاورة له، على أهميتها، فإن الاقتراع لصالح بابا أرجنتيني الأصل، يضيف إلى عاتق الكنيسة الكاثوليكية، وما تمثله مسيحياً، مهمات جديدة، وخاصة في ظل هذه التطورات الجديدة التي يشهدها عالمنا، والتي يفترض منطقياً بالبابا الجديد وضعها على رأس مهماته، وبخاصة مسائل التسامح الديني، وإبعاد الأديان عن التطرف الأصولي، وتطبيع العلاقات بين الكنائس المسيحية خصوصاً، والعلاقات مع معتنقي الأديان السماوية الأخرى ومؤيديهم وأنصارهم.. ولن تغيب بالضرورة الأوضاع والتطورات والأزمات الاقتصادية – الاجتماعية العالمية، وانعكاساتها السياسية على الملفات الساخنة التي سيتعاطى معها الفاتيكان بما يمثله دولياً.

وينتظر من البابا الجديد القادم من أمريكا الجنوبية، التي تشهد تحولات اجتماعية- اقتصادية، وتالياً سياسية، نحو الاستقلال الجنوبي لبلدانها بزعامة قوى اليسار والتقدم، أن تلحظ توجهاته وسياساته هذه التطورات القارية والدولية.. إذ لا يخفى على أحد تأثير الفاتيكان (رغم صغر دولته جغرافياً وحجم فعاليته الكبيرة) على المتغيرات الدنيوية التي يشهدها عالمنا، وإلى مطالب الشعوب المتدينة أو غيرها، الساعية بمجموعها إلى عالم أكثر توازناً وعدلاً، وما تمثله هذه المطالب من تأثير على التطورات الراهنة والمستقبلية القريبة أيضاً.

العدد 1105 - 01/5/2024