ما بعد الثورة مأزق المرحلة الانتقالية واستحقاقاتها في تونس

تحولت جنازة البائع المتجول عادل الخزري الذي أحرق نفسه يوم 13/3/2013 في قلب العاصمة التونسية، احتجاجاً على تردي ظروفه المعيشية، إلى مظاهرة غضب شارك فيها عشرات الآلاف في قرية (سوق الجمعة) من ولاية جندوبة شمال غرب تونس.

وتجمع نحو 4000 مواطن من المشاركين في جنازة الشاب أمام منزل عائلته، ورددوا هتافات معادية ل(حزب النهضة) الحاكم، من بينها: (خبز وماء.. والنهضة لأ)، كما رفعوا لافتات كتب عليها باللغة الفرنسية شعارات تطالب رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي ب(الرحيل).

وتعيد حادثة إحراق الخزري لنفسه إلى الأذهان حادثة البائع المتجول الشهيد محمد البوعزيزي، مفجّر (ثورة الياسمين) التي أطاحت في مطلع عام 2011 بالرئيس زين الدين العابدين بن علي.

 

أوّليات مشاغل حكومة على العريض

إلى ذلك قال علي العريض، رئيس الحكومة التونسية الجديدة، أمام المجلس التأسيسي، إنه مدرك تماماً لواقع (المعاناة والتهميش) الذي يعانيه أبناء تونس، مشيراً إلى أن حكومته (تضع في صدارة أوّلياتها معالجة مشكلتَيْ التشغيل وغلاء المعيشة، وتحقيق الأمن والاستقرار).

وأعرب العريض عن يقينه بأن الجهود التي تعتزم حكومته بذلها لحل مشكلة البطالة والحد من رفع الأسعار (ستؤتي ثمارها في الأشهر القليلة المقبلة). وفي سياق متصل أبدى العريض استعداد حكومته لدعم كل مبادرات الحوار الوطني الشامل، سواء منها داخل المجلس التأسيسي أم تحت مظلة منظمة الشغيلة، أم رئاسة الجمهورية، على أن يكون هدف أي حوار هو (التهدئة وضغط حدة التجاذبات السياسية، وتغليب الوحدة الوطنية والوفاق، والبحث عن تسويات للقضايا الخلافية) وفق تعبيره.

ولكن برغم مرور أكثر من عامين على قيام (ثورة الياسمين)، ومرور أكثر من عام على انتخاب (المجلس التأسيسي) الذي عهد إليه بإدارة المرحلة الانتقالية لمدة عام، فإن المتابع للشأن التونسي يجد أن تونس لاتزال تعاني الكثير من المشكلات، مع انتقادات كثيرة توجه إلى المجلس وحزب الأكثرية (حزب النهضة) في إدارتهما لتلك المرحلة المهمة، وذلك على الصعد السياسية والاقتصادية والأمنية.

 

1- على الصعيد السياسي:

منذ قيام الثورة حتى اليوم، شهدت تونس تغييرات سياسية واسعة، لعل أبرزها انتخاب (المجلس التأسيسي) الذي فاز فيه حزب النهضة الإسلامي بنحو 40% من أصوات الناخبين، ثم توافق القوى السياسية على اختيار (العلماني) منصف المرزوقي رئيساً مؤقتاً للبلاد، فيما تولى (اليساري) مصطفى بن جعفر رئاسة المجلس التأسيسي، وعلي العريض خلفاً لحمادي الجبالي رئيساً للوزراء.. في مسعى لتحقيق أكبر قدر من التوافق بين القوى السياسية وبأقل قدر ممكن من الخسائر.

ولكن منذ انتخاب (المجلس التأسيسي)، تعرضت البلاد لعدد من المشكلات السياسية التي ارتبطت في المقام الأول بطول الفترة الانتقالية التي كان يفترض أن تنتهي في منتصف تشرين الأول ،2012 الأمر الذي ترتب عليه تأخر إجراء الانتخابات التشريعية التي أعلن أنها ستجري مبدئياً في النصف الثاني من العام الجاري. ومدعومة بضعف أداء الحكومة السابقة، خلال المرحلة الانتقالية، تشدد المعارضة على أهمية تجاوز الشرعية الانتخابية للمجلس التأسيسي إلى الشرعية التوافقية التي تفترضها طبيعة المرحلة الانتقالية، حيث تلقى دعوتها مساندة من حزب (المؤتمر من أجل الجمهورية) شريك (حزب النهضة) في الائتلاف الثلاثي الحاكم.

ونجحت المعارضة في تحييد وزارات السيادة في حكومة العريض الجديدة، خاصة وزارات المالية والداخلية والخارجية والعدل، الأمر الذي يمكنها من التحكم في قيادة المرحلة التي تسبق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة.

 

2- على الصعيد الاقتصادي

برغم أن الثورة التونسية لم تكن تماماً ثورة جوعى وفقراء، إذ التحقت بها طبقات عدة من المجتمع كانت تشكو سلبيات نظام بن علي الذي حكم البلاد بقبضة من حديد، فإن الاستياء من الوضع المعيشي هو ما أشعل الثورة، وهي المعضلة ذاتها التي تواجهها الحكومة التونسية اليوم.

ومن الأسباب الرئيسية للأزمة الاقتصادية التي تواجهها الحكومة التونسية، ارتفاع نسبة الفقر في المناطق الغربية والجنوبية للبلاد، والتي تشهد احتجاجات متواصلة، مطالبة بتحسين ظروف المعيشة، وتوفير فرص عمل، والخدمات الأساسية المفقودة في تلك المناطق، إضافة إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية بفعل حالة عدم الاستقرار التي تحياها البلاد، وسط تدهور الأوضاع الأمنية التي تسببت في انكماش الاقتصاد بنسبة 8,2%.

يأتي ذلك مع انتقادات توجه إلى حكومة الجبالي السابقة التي اكتفت بترميم السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي انتهجها حزب النهضة، وأنها لم تنتهج سياسة تشاركية تتيح الفرصة لكل القوى السياسية والاجتماعية لتقديم مقارباتها وتصوراتها للخروج بتونس من أزمة خانقة أججت الاحتقان الاجتماعي، إذ تصاعدت موجة الاعتصامات والإضرابات التي أصبحت أمراً شائعاً في أغلب مناطق البلاد، منذ سقوط نظام بن علي، على خلفية مطالب تنموية واجتماعية. وفي ضوء الوضع الاقتصادي المشار إليه، فقد توترت العلاقة بين الاتحاد العام لتونسي للشغل وحزب النهضة، على خلفية مساندة الاتحاد للكثير من الإضرابات في البلاد. وقد اتهم رموز حزب النهضة اتحاد الشغل (بتسييس العمل النقابي)، والتحريض على الإضرابات، فيما اتهم الأمين العام للاتحاد العام حزب النهضة بسوء الإدارة والتدبير، عازياً تفاقم الاعتصامات إلى مبالغة الأحزاب بالوعود التي قطعتها للناخبين، دون إيجاد الحلول العملية والواقعية.

 

3- على الصعيد الأمني

في ضوء توتر العلاقة بين الاتحاد العام التونسي للشغل وحزب النهضة، فقد شلّ إضراب عام أغلب المحافظات التونسية منذ تشرين الثاني ،2012 وقد تخلل الإضراب مواجهات عنيفة بين قوات الأمن وآلاف المتظاهرين المطالبين بالتنمية والوظائف، وقد أفادت مصادر طبية أن نحو 3000 مواطن أصيبوا خلال المواجهات التي استخدمت فيها قوات الأمن الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريق المتظاهرين.

وكان من أخطر الحوادث الأمنية التي شهدتها تونس خلال الفترة الأخيرة، هي اغتيال القائد اليساري شكري بلعيد على يد أحد العناصر السلفية، والتي أضافت إلى أسباب الخلاف بين الحكومة الإسلامية وأحزاب المعارضة حول الطريقة المثلى للتعامل مع المتطرفين السلفيين. ففي حين يحاول حزب النهضة طمأنة التونسيين بأنه سيحترم القيم الديمقراطية الليبرالية، ولن يعمد إلى فرض قانونه الإسلامي، فإن هناك انتقادات توجه إليه بأنه اتخذ في إطار ذلك موقفاً متسامحاً تجاه السلفيين المغالين بالتطرف.

وقالت منظمة (هيومان رايتس ووتش) إن السلطات بدت غير قادرة، أو راغبة، في حماية الأفراد من هجمات يشنها عليهم المتطرفون السلفيون، إذ يؤكد حزب النهضة، أن أقلية من السلفيين فحسب هي التي تتبنى العنف، وعليه يحاول قادة الحزب دمجهم في (النظام الديمقراطي)!

 

صعود التيار (البورقيبي)

نتيجة لضعف أداء حكومات حزب النهضة في إدارة الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية خلال المرحلة الانتقالية، فإن ذلك كان سبباً في تشجيع تيارات كثيرة على إعادة الهيكلة، ومن بينها (التيار البورقيبي). وقد تجسدت هذه العودة في الاجتماع الجماهيري الذي عقده من يطلق عليهم (الدستوريون) في مدينة (المنستير) يوم 24/9/2012 برئاسة الوزير الأول السابق الباجي قايد السبسي.. وإثر الاجتماع بدأ البعض يدق ناقوس خطر عودة رموز النظام السابق إلى الواجهة السياسية، خصوصاً مع ارتفاع شعبيتهم نسبياً مقابل شعبية الأحزاب المنضوية في إطار الائتلاف الحاكم.

ولمواجهة خطر إعادة تشكيل النظام القديم من جديد، فقد طرحت خمس كتل برلمانية بالمجلس التأسيسي مشروع (قانون التحصين السياسي للثورة)، والذي يقضي بالعزل السياسي لمدة عشر سنوات ل(الفاعلين) السياسيين إبان نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. ويهدف القانون الذي قدمه النواب للمجلس التأسيسي في 22 تشرين الثاني 2012 إلى (إرساء التدابير الضرورية لتحصين الثورة تفادياً للالتفاف عليها من النظام السابق، حسبما ورد في الفصل الأول من مشروع  القانون. وبادرت إلى طرح المشروع الكتل البرلمانية التالية: حزب النهضة (إسلامي)، حزب المؤتمر (يساري وسطي)، حزب الوفاء (قومي عربي)، حزب الحرية والكرامة، حزب المستقلين الأحرار.

وفي حين يتوقع المراقبون تمرير القانون بسهولة، لأن الكتل الخمس تملك مجتمعة أغلبية المقاعد في المجلس التأسيسي الذي يضم 217 نائباً، فقد سادت عاصفة من الغضب الأوساط السياسية التونسية احتجاجاً على مشروع القانون الذي اقترحه حزب النهضة، فقد اتهمت المعارضة الحزب نفسه بإيواء عدد من رموز النظام السابق، مثل وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ومحافظ المصرف المركزي الشاذلي العياري. ورأوا أن القانون يندرج في إطار تصفية الخصوم السياسيين عبر توظيف القضاء.

يأتي ذلك في الوقت الذي أعلن فيه السيد الباجي قائد السبسي، رئيس حزب (نداء تونس)، أن قانون العزل السياسي (يستهدفه شخصياً)، ورأى أن الهدف الحقيقي من هذا القانون هو إفراغ الساحة السياسية في تونس من خصوم (حزب النهضة). فقد أظهرت استطلاعات رأي أجريت مؤخراً أن الباجي السبسي أصبح يحظى مع حزبه بشعبية كبيرة في تونس. ويتوقع مراقبون انحصار المنافسة خلال الانتخابات العامة المقررة في النصف الثاني من العام الجاري بين حزبَيْ النهضة ونداء تونس، في حال عدم إقرار قانون العزل.

في الوقت نفسه دعا الرئيس المؤقت منصف المرزوقي الحكومة الجديدة برئاسة علي العريض إلى (الابتعاد عن سياسة المحاصصة والولاءات الحزبية، والتركيز على التنمية أولاً وعاشراً)، منبهاً إلى أن تونس على (مفترق طرق)، داعياً الجميع إلى تحمل مسؤولياتهم أمام هذا الظرف الدقيق.. ورأت أطراف سياسية مشغولة بالشأن التونسي، أن دعوة المرزوقي تشكل انتقاداً علنياً لأداء حكومات (الترويكا) التي هو أحد أطرافها، ومؤشراً إلى بوادر تفكك محتمل داخل الائتلاف الحاكم.

لقد تدخلت (حركة النهضة) منذ استلامها السلطة في الشؤون الداخلية السورية، ولعبت السلفية دوراً تخريبياً في إرسال (الجهاديين) إلى سورية من تنظيم (جبهة النصرة) الذين يقدر عددهم بالمئات، بهدف التخريب والقتل والسرقة وتشكيل ما يسمى (إمارات إسلامية)، وتقع على عاتق الحكومة الجديدة إيقاف المد السلفي، وتفكيك الشبكات التي تصدّر الجهاديين إلى سورية.

محمد صوان

العدد 1105 - 01/5/2024