من الصحافة العربية العدد 573

من غليون إلى هيتو: نزهة المحارب الذاهب إلى الخديعة

 

 كانت مسيرة المعارضة السورية في سياق حضورها السياسي ولا تزال التعبير الأمثل عن تجاذبات القوى الخارجية التي تمول تلك المعارضة وتديرها وتحدد لها خياراتها في السلم كما في الحرب. فيوم أعلن عن انبثاق المجلس الوطني السوري المعارض اختير برهان غليون رئيساً وواجهة له. غليون (فرنسي الجنسية)، عرف بنزعته الليبرالية، لم يكن وجوده في منصبه مقنعاً للجهات التي تخطط لمستقبل سوري يغلب عليه الطابع الديني (المعتدل)، وهي الجهات المدعومة من قبل الولايات المتحدة.. لذلك تمت إزاحته وجيء بعبد الباسط سيدا (سويدي الجنسية)، الذي هو الآخر غادر منصبه على عجل ليتم استبدال جورج صبرا به، وهو المسيحي الذي لم يغادر سورية إلا قبل وقت قصير.

غير أن كل هذا القفز بين الألغام لم يكن مجدياً، إذ إن الولايات المتحدة لم تكن تنظر بعين الرضا إلى تركيبة المجلس الوطني. كان واضحاً أن الإدارة الأمريكية تميل إلى تغليب كفة التيار الديني على حساب التيارات المدنية، وهو ما أفصحت عنه دولة قطر، وهي الممول الرئيس لنشاطات المعارضة السورية يوم أرغمت أعضاء المجلس الوطني على الاجتماع في الدوحة والموافقة على الانضمام لتجمع يكون بمثابة حاضنة لتيارات، لم تتسع لها تركيبة المجلس الوطني. يومها أعلن عن تأسيس الائتلاف الوطني السوري المعارض، برئاسة أحمد معاذ الخطيب، رجل الدين الذي عرف باعتداله. كان تأسيس ذلك الائتلاف إيذاناً بطي صفحة المجلس الوطني الذي لطالما رفع المتظاهرون في المدن السورية لافتات تؤكد أنه يمثلهم.

غير أن ما جرى في إسطنبول في الأيام الأخيرة ينذر بوقوع تحول، من شأن تكريسه واقعياً أن يجعل من كل التحويرات التي شهدها جسد المعارضة السياسي شيئاً من الماضي. لقد أعلن هناك عن إقامة حكومة سورية انتقالية، سلمت رئاستها لغسان هيتو، وهو رجل أعمال أمريكي، من أصول سورية.

الآن يمكننا أن نرسم خطاً يبدأ بغليون لينتهي بهيتو.. خطاً يبدأ برجل الأفكار ليقف بين يدي رجل الأعمال، مخلفاً وراءه رجل الدين، الذي لم يسمع له أحد صوتاً في إسطنبول. فهل صار الخطيب هو الآخر جزءاً من الماضي؟

عملياً فإن مبادرة الخطيب لا يمكن تفعيلها على الأرض في ظل وجود حكومة انتقالية، قد يسارع الغرب إلى الاعتراف بها. بالنسبة للحكومة نفسها فقد جرى تسويق فكرتها على أساس أنها ستدير الأراضي التي تسيطر عليها قوات المعارضة المسلحة. فهل ستقبل (جبهة النصرة) على سبيل المثال بالخضوع لحكومة باركت الولايات المتحدة إنشاءها، بعد أن كان قد تم تصنيفها أمريكياً باعتبارها تنظيماً إرهابياً؟

الخطيب من جهته سبق له أن دافع عن ذلك الفصيل، وأبدى استياءه بسبب القرار الأمريكي. ثم إن الحرب في سورية بما تميزت به من أساليب الكر والفر لا تسمح بتشكيل خرائط نهائية للمناطق التي تستقر فيها المعارضة، والتي قد تقع في أية لحظة بيد النظام، فهل ستلجأ الولايات المتحدة إلى إعلان محميات من أجل أن تؤدي الحكومة الانتقالية وظائفها؟

إذا حدث إجراء من هذا النوع، فذلك معناه عملياً المباشرة في تقسيم سورية.. وهكذا يكون الإعلان عن حكومة انتقالية بمثابة الخديعة التي يراد من خلالها الانتقال إلى الهدف البعيد، وهو تقسيم سورية.

فاروق يوسف

نقلاً عن  (ميدل إيست أونلاين)

 

أوباما الإسرائيلي المتملق

 

 لم أشاهد في حياتي رئيساً يتملق الإسرائيليين ويستجدي رضاءهم، ويبتذل في التغني بهم وإنجازاتهم وتاريخهم، مثل الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي سجل أكبر سابقة في تاريخ بلاده بفوزه بالرئاسة وهو المرشح غير الأبيض. توقعنا مخطئين أن الرجل بحكم لونه، وانتمائه إلى فئة عانت قروناً من الاضطهاد، وتحدث بمرارة عن العزل العنصري لأجداده وأعمامه في شيكاغو، عندما كان محظوراً عليهم الجلوس مع البيض في حافلة واحدة، أو في الجزء غير المخصص لهم في الحافلات، توقعنا منه أن يكون مختلفاً، وأقرب إلى تفهم معاناتنا وأهلنا تحت الاحتلال العنصري الإسرائيلي. ولكنه خيّب آمالنا، وذكّرنا بالعم توم في الرواية الأمريكية الشهيرة، ذلك الخادم (الزنجي) الأسود الذي يلغي إنسانيته وكرامته أمام سيده الأبيض. فاجأنا المستر باراك (حسين) أوباما في خطابه الذي ألقاه أمام مجموعة من الشبان الإسرائيليين في القدس المحتلة، عندما طالب، وهو الإفريقي، الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، وحثّ العرب على التطبيع معها، وقال للذين ينكرون حق إسرائيل في الوجود بأن إنكارهم هذا مثل إنكار الأرض والسماء، مؤكداً أن إسرائيل لن تزول، ولن تذهب إلى أي مكان، فمادامت الولايات المتحدة موجودة فإن الإسرائيليين لن يكونوا وحدهم. لا نفهم لماذا استخدم أوباما ترديد هذه الكلمات، ولماذا أقدم على هذا التزلف المهين، فإسرائيل هي التي تهدد وجودنا، وهي التي تنكر حقوقنا، وهي التي تحتكر امتلاك أكثر من 300 رأس نووية كفيلة بتدمير المنطقة برمتها.

نستغرب أن يخرج علينا رئيس إفريقي الأصل واللون، ويطالبنا بما رفضه أجداده من تمييز عنصري، وقدموا آلاف الضحايا والشهداء لكسر كل قيود العبودية والتمييز العرقي والديني، بمطالبته لنا بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية عنصرية، تهدد وجود ربع سكانها، وتسحب منهم حق المواطنة. جميع الرؤساء (البيض) لم ينحدروا إلى هذا المنحدر العنصري المتدني، ومعظمهم مارسوا ضغوطاً على إسرائيل من أجل إجبارها على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، فما الذي دفع أوباما للشذوذ عن القاعدة والزحف تحت أقدام نتنياهو، طالباً الصفح والغفران بالطريقة التي شاهدناها في اليومين الماضيين؟ زيارة أوباما للمنطقة ليست زيارة رجل سلام، وإنما رجل حرب، جاء من أجل إشعال فتيلها، والاتفاق على التفاصيل مع نظيره الإسرائيلي نتنياهو الذي أهانه عندما اختار علناً تأييد ميت رومني، المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة. أوباما أعطى إسرائيل الضوء الأخضر لشن هجوم على إيران دون التشاور مع الولايات المتحدة مسبقاً، وحثّ العالم على وضع حزب الله على لائحة الإرهاب، وتعهد بعدم السماح لإيران بامتلاك أسلحة نووية.

مؤسف أن يطالب أوباما الرئيس محمود عباس بالعودة إلى المفاوضات دون شرط تجميد المستوطنات، وهو الشرط الذي وضعه بنفسه أثناء خطابه الذي ألقاه في جامعة القاهرة بعد أسابيع من فوزه بالرئاسة.مثل هذه المواقف المتطابقة مع نظيرتها الإسرائيلية بالكامل، علينا أن نتوقع أربع سنوات عجاف، هي مدة ولاية أوباما الثانية، عجاف بالنسبة إلينا كعرب ومسلمين، وسمان بالنسبة إلى الإسرائيليين وحكومتهم اليمينية المتشددة. الفلسطينيون الذين تظاهروا في مدينة رام الله، وتصدت لهم قوات الأمن الفلسطينية، ومنعتهم من الاقتراب من مقر السلطة، حيث هبطت طائرة أوباما، هؤلاء كانوا يمثلون مشاعر الشعب الفلسطيني الصادقة تجاه هذا الرئيس الأمريكي، الذي أدار ظهره للظلم والمظلومين، وانحاز إلى الظالم والجلاد. أوباما يقدم للإسرائيليين القبب الحديدية والطائرات الحديثة، والتعهد بدعم أمنهم ووجودهم إلى الأبد، بينما يقدم للفلسطينيين صكوك الإذعان.. إنها قمة المأساة.. إنه زمن النفاق الأمريكي والهوان العربي دون منازع.

عبد الباري عطوان

(القدس العربي)، 21/3/2013

 

دروس العراق المؤلمة

 

 إن غزو العراق لإسقاط نظام صدام حسين منذ عقد كان من أفدح الأخطاء الاستراتيجية في التاريخ الأمريكي الحديث. ولن نعلم أبداً بالوضع وما إذا كان سيصبح مختلفاً لو كان هناك تخطيط أفضل (لما سيحدث بعد ذلك)، أو لو لم يتم تفكيك الجيش العراقي، فضلاً عن الكثير من الأمور الأخرى التي لم تحدث، أم لا. الحقيقة الواضحة هي أن الولايات المتحدة لم يكن ينبغي لها رمي النرد بهذه الطريقة في حرب اختيارية. وعندما أفكر في ما حدث في مأزق عام 2003 تومض في ذهني ملاحظتان لصديقين من العرب. وكانت واحدة من الملاحظتين لصديق لبناني شيعي دعم حرب العراق شريطة تمتع الولايات المتحدة بقدرة على الحسم كافية لإنهاء ما بدأته. وقال صديقي: (إذا كانت روما قوية، فالبلدان مستعدة).

لكن روما لم تكن قوية بما يكفي لتسود. وتبين أن القوة العسكرية الأمريكية، التي كانت تبدو رائعة آنذاك، غير كافية لفرض تسوية في العراق. وفي أتون حرب الاحتلال، لم تتمكن قوتنا بأكملها من توفير الكهرباء لبغداد أو إخافة السنّة والشيعة وإجبارهم على التعاون معاً. لقد كانت روما ضعيفة في القلب من الجهة السياسية، إذ لم تكن لدى الولايات المتحدة قدرة على خوض حرب طويلة لم يتمكن الرئيس السابق جورج بوش الابن من توضيح أسبابها ولم يفهم الشعب.

التعليق الثاني كان لصديق سوري معارض للحرب. في عام 2002 عندما ناقشنا المعركة المقبلة للمرة الأولى، كان يقرأ (The March of Folly) (مسيرة الحماقة) للمؤرخة باربرا توشمان، التي تتناول فيها الأخطاء السياسية التاريخية. وحذر صديقي من أن الولايات المتحدة على وشك ارتكاب خطأ آخر ذي أبعاد تاريخية.

تجنبني صديقي بعد النقاش الحاد لعدة أشهر. وما زلت مأخوذاً بما قاله حتى هذه اللحظة: (أنا آسف على حال الولايات المتحدة، فأنتم عالقون. لقد أصبحتم دولة من دول الشرق الأوسط. ولن تغير الولايات المتحدة العراق أبداً، بل العراق هو من سيغير الولايات المتحدة).

ما هي الدروس الأخرى التي يمكن للولايات المتحدة أن تتعلمها من العراق؟ من الدروس الواضحة خطر حدوث فراغ سياسي بعد إسقاط الحاكم المستبد. لقد حلمت الولايات المتحدة بتحديث العراق من خلال إسقاط نظام صدام حسين، لكن عندما حللنا الجيش العراقي الذي لا يتسم بالطائفية، وفككنا أكثر أجزاء النظام العلماني، لم يجد العراقيون سوى الهوية العرقية والقبلية ليحتموا بها، سواء كانوا سنّة أم شيعة أم أكراداً أم عرباً.أدرك الكثيرون في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الحاجة إلى الحفاظ على تماسك الجيش العراقي والأجهزة المدنية. وكان هذا من أسباب اصطدامهم بوزير الدفاع، دونالد رامسفيلد، وبطله العراقي، أحمد الجلبي، الذي أراد حل حزب البعث واجتثاثه تماماً.  في ظل حالة الفراغ السياسي التي أحدثناها، ارتد العراق إلى الماضي ومعه الكثير من الدول العربية. ويعد هذا من أسباب حرص أوباما الشديد هذه الأيام في التعامل مع سورية، فهو لا يريد للولايات المتحدة أن ترتكب الخطأ نفسه مرتين. ومع ذلك، فالتاريخ قاس جداً، إذ يمكنك أن تحاول جاهداً تفادي نتيجة، بينما تساعد أنت بنفسك على تحقيقها بسبب سلبيتك.

هناك درس آخر هو أهمية الكرامة في العالم العربي. احتقر أكثر العراقيين صدّاماً لأنه، فضلاً عن تعذيبه لأبنائهم وبناتهم، امتهن كرامتهم. مع ذلك يبغض الكثيرون الولايات المتحدة أيضاً، لأننا رغم كل حديثنا عن الديمقراطية، دمرنا إحساسهم بالشرف والاستقلال. وكما يثبت العالم العربي يوماً بعد آخر، من فلسطين إلى بنغازي، فإن الفقراء مادياً يفضلون الموت على خسارة شعورهم بالشرف أمام غرباء دخلاء.

ديفيد إغناتيوس

(الشرق الأوسط)، 22/3/2013

خدمة (واشنطن بوست)

العدد 1105 - 01/5/2024