التوتر الكوري… نحو «الحرب» أم «الانفراج»؟

تزداد حدة التوتر في شبه الجزيرة الكورية، المستمرة منذ أسابيع، وصولاً إلى مناقشة ملفها في اجتماعات وزراء خارجية الدول الثماني الكبرى في لندن الأسبوع الماضي، وإدراج هذا الملف على جدول أعمال مباحثات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، في جولته الآسيوية، وخاصة زيارته للعاصمة الصينية بكين قبل أيام قليلة، فضلاً عن اتساع دائرة التوتر هذه، لتشمل محيط شبه الجزيرة الكورية، وفي المقدمة اليابان، التي صنفتها كوريا الديمقراطية بأنها أحد أطراف الأزمة القائمة حالياً، والمستهدفة أيضاً.

بداية، لابد من الإشارة إلى أن الأزمة القائمة والآخذة بالتفاقم، سببها المناورات العسكرية الأمريكية- الجنوب كورية الواسعة، وتعود جذورها أيضاً إلى توقف المحادثات السداسية الخاصة بالملف الكوري (روسيا – الصين- الولايات المتحدة – اليابان – شطري شبه الجزيرة الكورية) منذ العام 2009 من جهة، وإلى التجارب النووية التي تجريها كوريا الديمقراطية (ثلاث تجارب مؤخراً)، لاختبار قدراتها النووية من جهة ثانية.. فضلاً عن تراجع واشنطن وحلفائها عن تنفيذ آخر اتفاق تم التوصل إليه ثنائياً، وفي إطار السداسية، يتضمن تفكيك بيونغ يانغ لبرنامجها النووي، مقابل تعهد الدول الأخرى تزيد كوريا الديمقراطية بالماء الخفيف لتشغيل مفاعلاتها النووية الخاصة بتوليد الطاقة، والمساهمة في استمرار عمل مفاصلها الاقتصادية أيضاً. (توصل إلى الاتفاق عام 2007 ولم ينفذ بعد).

ورغم جمود المباحثات السداسية والاتصالات بين أطراف الملف الكوري، على أهميتها، فإن التوتر الذي تشهده شبه الجزيرة الكورية منذ أسابيع يؤشر إلى حدته وإلى خطورته أيضاً.

فقد أوصل هذا التوتر إلى إغلاق مجمع كايسونغ الحدودي، بين شمال كوريا وجنوبها، وتالياً إيقاف العمل به، الذي اعتبر في حينه خطوة نحو تطبيع ما للعلاقات بين شطرَيْ كوريا، وتواصلت حدته مع إعلانه زعيم كوريا الديمقراطية كيم جونغ أون، أن قدرات بلاده النووية هدفها حماية الوطن وسيادته واستقلاله.

وفي الوقت الذي أكدت فيه بيونغ يانغ أن تجاربها النووية محض دفاعية، وأنها التزمت لسنوات عديدة باتفاقيات السداسية، وأوقفت العمل في مجمع يوننغبيونغ النووي منذ عام ،2007 لم تلتزم الدول الأخرى المعنية باستحقاقات هذه الاتفاقيات، وبضمنها تزيد كوريا الديمقراطية بوسائل بديلة لتشغيل قطاعاتها الاقتصادية التي تعتمد في الكثير منها على الطاقة النووية السلمية.

وازدادت حدة التوتر هذه مع قيام قاذفات أمريكية ( ف،52 الشبح بي 2) بمناورات وجولات على الحدود بين الكوريتين، وإرسالها مدمرات حربية إلى المنطقة تحمل مضادات للصواريخ لحماية قواعدها في كوريا الجنوبية واليابان، وصولاً إلى جزر غوام وهاواي.. وهو ما اعتبرته بيونغ يانغ تصعيداً أمريكياً يضاف إلى التصعيد الكوري الجنوبي، المتمثل في المواقف المتشددة الرئيسة الجديدة باك جون هيه الأخيرة، ووزير خارجيتها بون بيونغ، فضلاً عن تصريحات وزير الخارجية اليابانية العدائية ضد كوريا الديمقراطية وتحميلها مسؤولية التوتر الحاصل.

ورداً على هذه التصريحات والمواقف حذرت بيونغ يانغ من أن قدراتها العسكرية ستطول القواعد الأمريكية في شرق آسيا،وبخاصة اليابان.. وأكدت استعدادها للدفاع عن سيادتها، ومواجهة الأطراف المعادية.. كما أكدت أوامر زعيمها أون للقيادات العسكرية، أن تكون على أهبة الاستعداد لرد أي عدوان، والقيام بخطوات دفاعية استباقية، ورفع الاستعداد القتالي وجاهزية القوات إلى حدودها القصوى.

وفي الوقت الذي شغلت فيه الأزمة الكورية أحد بنود اجتماعات وزراء خارجية الدول الثماني الكبرى، فقد تباينت المواقف حول كيفية التهدئة، ما بين الموقف الروسي الداعي إلى عودة المحادثات السداسية بوصفها الجهة المعنية بمعالجة الأزمة الكورية، إلى الموقف الصيني الداعي إلى التهدئة وضبط النفس، والموقف الأمريكي وحلفائه المحذر من تبعات التصعيد في المنطقة. وقد طالب وزير الخارجية الأمريكي كيري خلال زيارته الأخيرة إلى بكين، الجانب الصيني باستخدام (إمكاناته) للضغط على كوريا الديمقراطية ل(تهدئة) التوتر القائم، واقترح إقامة منطقة خالية من السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية. وتجاهل كيري في مطالبته هذه تراجع بلاده عن تنفيذ الاتفاقيات التي توصلت إليها الولايات المتحدة، القاضية بتجميد البرنامج النووي الكوري الديمقراطي في إطار حل شامل للأزمة، يتضمن أيضاً العلاقات الثنائية و(الدولية)، وإنهاء الحصار الاقتصادي والسياسي الأمريكي – الغربي على بيونغ يانغ. كما تجاهل كيري سياسة بلاده الانتقائية والكيل بمكيالين، إذ يدرك كيري أن أحد عوامل قوة كوريا الديمقراطية تكمن في قدراتها العسكرية، وبضمنها النووية، وأن حل هذه الأزمة يفترض شموليتها، وتالياً عدم (إفقاد) إحدى الكوريتين عناصر قوتها، دون ضمانات أو تعهدات مسبقة.

كما تتناقض هذه الدعوة الأمريكية لحل الأزمة الكورية مع مواقفها تجاه الدول النووية الأخرى، وبخاصة إسرائيل وإمكاناتها العسكرية النووية، إذ لا تطالب واشنطن أو توافق على مبادرات دول الشرق الأوسط حول إقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وتتغاضى عن رفض تل أبيب الانصياع والالتزام بقوانين وأنظمة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبضمنها تفقّد مواقعها النووية.

لقد أعلنت كوريا الديمقراطية منذ العام 2007 موافقتها على رزمة حل للملف الكوري عنوانه (شمولية هذا الحل)، وتضمينه كل بنود الملف، وهذا ما تنصلت منه واشنطن وحلفاؤها في إطار السداسية المتوقفة أعمالها منذ عام ،2009 في الوقت الذي ازداد فيه الانشغال (الإقليمي) و(الدولي) بهذا الملف إثر التوتر الحاصل على أهميته وخطورته.

تتفاعل الأزمة في شبه الجزيرة الكورية، ويتسع نطاقها إلى ما هو أبعد من موقعها الجغرافي على حساسيته وأهميته.. فهل تمثل دعوات واشنطن وحلفائها خطوة جزئية ل(تهدئة) الوضع في شبه الجزيرة الكورية، أم (انفتاحة) جديدة على الملف برمته، وبضمنه ما تراجعت عنه من اتفاقيات سابقة؟

العدد 1105 - 01/5/2024