ما هكذا تورد الإبل يا مجتمعنا المدني!

منذ نحو شهر مضى، قام مجموعة من الشبان والشابات الفنانين وذوي الميول الفنية بتلوين درج طويل من الأدراج الموجودة ببلدتهم دير عطية، محولين إياه من مجموعة من الحجارة الصماء إلى لوحة ناطقة تفيض بالفن والإبداع، وتستوقف المارة آخذة بألبابهم وآسرة لعقولهم. وقد تناول أكثر من موقع إلكتروني أوربي هذا العمل الفني بالمديح والإعجاب، لا لمضمونه الفني وحسب، بل لفكرة المبادرة وجدّتها وتناقضها مع ما يعتري سورية من الفوضى والإرهاب.

وقد يمكن القول إن هذا العمل قد يكون باكورة أعمال المجتمع المدني الوليد القادر على الاستمرار والانتشار، على عكس ذاك الذي نشهده اليوم، والذي حصر نفسه بأعمال الإغاثة والأعمال الخيرية، ولم يعمل حتى الآن على توظيف الطاقات الإبداعية الشبابية وإقامة صلة وصل بين الدولة والمواطنين.

ما يزيد القضية تعقيداً هو أن المجتمع المدني ليس بمرحلة حشد وتوجيه صوب هدف معين، بل هو لا يزال في طور المخاض، إذا لم نقل إنه لا يزال بطور التشكل الجنيني. فهو لم يكن موجوداً قبل الأزمة بشكله المنظم والقادر على المضي قدماً بدعم المجتمع، بل كان عبارة عن مبادرات خجولة لا تسمن ولا تغني من جوع، وحتى المؤسسات التي تنسب عادة إلى المجتمع المدني لم تكن تتصرف على أنها كذلك، ومنها الأحزاب والأفواج الكشفية.. أما الآن، فنحن نرى الجمعيات تخرج إلى العلن تباعاً، وتتسابق نحو العمل الميداني لإثبات حضورها، آخذة عهداً على نفسها ألا تترك مدرسة للاجئين إلا وتتعهدها بالعناية والاهتمام، وألا تدخر جهداً في سبيل ترفيه أطفال هذه المدارس، وهذا الهدف، رغم نبل مقصده، إلا أنه يبتعد عن فكرة المجتمع المدني السليم الذي يشرك المواطنين بعملية التنمية ويجعلهم مسؤولين، كمرحلة أولى، عن الأحياء والبلدات التي يقطنونها، فيعتنون بها ويتولون تجميلها وتزيينها، لتظهر بأبهى حلة، مما يبني علاقة وشيجة بين المواطن ومدينته وبين المواطنين أنفسهم.

وتشير بعض التجارب السابقة إلى أن مشروعاً مثل (موسيقا على الطريق) الذي توقف منذ عدة سنوات، وكان يقوم فيه بعض العازفين الشباب بأداء أعمال موسيقية على قارعة الطريق أمام المارة، هو مشروع أكثر فائدة من أعمال الإغاثة التي يوجد من يتولاها من منظمات إنسانية على رأسها الهلال الأحمر والصليب الأحمر ومن لف لفهما، والتي تملك من الدعم والتمويل ما يجعلها قادرة على أداء مهمتها دون الحاجة إلى أي جمعية رديفة.

قد يعدّ هذا الكلام زندقة، بنظر من يرون أن حاجات اللاجئين هي أوّلية في هذه المرحلة، وهي آراء تعتبر أن عملية التنمية لا تبدأ إلا بعد عودة المهجرين إلى بيوتهم، واستقرار الوضع الأمني. لكن أولئك المنظّرين يتجاهلون أن المؤسسات الحالية هي التي ستقود مسيرة التغيير والتطوير المستقبلية، فإن تأسست على نحو سليم كانت أهلاً لذلك، أما إذا قامت من أجل هدف آني ومرتبط بحالة مؤقتة، فستكون آيلة للزوال بزوال المسبب، وبالتالي فإن تلك القائمة على أهداف بعيدة الأمد، مرتبطة بالطاقات الشبابية التائهة بانتظار التوجيه والتوظيف، والمنابع الإبداعية سجينة الصالات الفنية والملتقيات النخبوية، هي التي ستكون الأقدر على تحمل عبء مشاكل المجتمع ومتطلباته، بدءاً بالمعيشية منها وانتهاءً بالجمالية والثقافية. وفي النهاية، سنكون غير منصفين إذا تجاهلنا دور الهيئات الحكومية، وعلى رأسها وزارتا الشؤون الاجتماعية والإدارة المحلية، بتسهيل عمل مؤسسات المجتمع المدني والتعاون معها قدر الإمكان، علماً أن تفاعلهما الحالي ليس هو المرجو، في سبيل الانطلاق بنهضة ثقافية اجتماعية مؤسساتية تكون ذات ديمومة وغير قابلة للارتكاس والتقهقر.   

العدد 1105 - 01/5/2024