ذكرى لا تمحى من الذاكرة

رحل الدكتور داود حيدو عن هذا العالم، ولكن ذكراه لن تغيب عن أولئك الذين عايشوه وعرفوه على حقيقته، فقد كان مناضلاً ماركسياً أممياً وقومياً عربياً وطنياً سورياً بامتياز.

يوم تشييع جنازته في كنيسة السريان الأرثوذكس في باب توما – سفل التلة، منذ سنة، التقيت صديقاً كنا نجتمع أحياناً مع داود، سألني: كيف ستتذكر الدكتور داود؟ أجبت: لن أتذكره. أمام استغرابه جوابي تابعت كلامي: الإنسان يتذكر من ينساه أو يتناساه، وأنا لن أنسى داود!

وأردفت: هناك الكثير من الأحداث التي تجعلني لا أنساه: كنت عائداً لتوي من الإيفاد، وكان الطقس حاراً جداً ولا أملك مالاً يكفي لإعالة أولادي وشراء وسائل تكييف تقي من الحر، وصادف أن اجتمعت معه من دون موعد، وكان رحمه الله يشغل منصب مدير التجارة الخارجية في وزارة الاقتصاد، فسألته: (دكتور داود.. ألا تعرف أحد مستوردي المراوح الكهربائية؟ فأجاب: بالطبع أعرف الكثيرين منهم من خلال مراجعاتهم الكثيرة لمتابعة معاملاتهم في الحصول على شهادات الاستيراد، وأردف: لكن لماذا هذا السؤال؟ قلت: لأنني أريد أن أحصل على مروحة عامودية بسعر الجملة، وأتمنى أن تساعدني في ذلك. ابتسم وقال: ليتك تطلب مني شيئاً مما أملك التصرف به، أما أن أطلب من تاجر أن يبيع لصديق لي قطعة بسعر الجملة، فسوف يفهم الطلب على نحو مختلف، ويعتقد أني أطلب مروحة لنفسي وسيقدمها بغير ثمن، معتبراً ذلك رشوة سيطلب مقابلها ولو بصورة غير مباشرة). أكبرت في داود مثل هذا التفسير وسعيت لأتخذه صديقاً. فمثل هذا الحس الوظيفي وحرصه على عدم التمييز بين عملاء المديرية نابع من حس وطني وإحساس كبير بالمسؤولية، وبالحرص على حماية المصلحة الوطنية.

وفي حادثة ثانية علمت في الثمانينيات من القرن المنصرم، من بعض طلابه في معهد التخطيط وفي جامعة حلب حيث كان يحاضر هناك مدى شغفه بالتعليم وعمق التزامه الأمانة العلمية وتقديم المعارف والتفاسير للظواهر الاقتصادية، ومحاولاته في إيصال المعلومة إلى الطلاب والإجابة على تساؤلاتهم. فقد روى لي بعضهم عن مدى ديمقراطيته في التعامل مع تلاميذه ومدى عدالته في معاملتهم. وكان كل ذلك يزيد من إعجابي بالدكتور داود، الموظف والوطني الصادق والمعلم القدوة. فلما صدر قرار تكليفي برئاسة قسم الاقتصاد في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، اتصلت به عارضاً عليه أن نكسبه في عضوية الهيئة التدريسية في الكلية بتعيينه مدرساً معنا، وبعد تردد قبل دعوتي، بعد نقاش غير قصير معه.

بدأت بالإجراءات لأخذ موافقة المجالس الجامعية المختصة، وطلبت منه تقديم الأبحاث التي أعدها وعنوان الرسالة التي دافع بها عن شهادة الدكتوراه، ووثائق الخبرة التدريسية إضافة إلى أية كتب قد كتبها ونشرها، لمحاولة تعيينه مساعداً مباشرة وليس مدرساً مبتدئاً. وقد نجحت في ذلك لأن مخزونه العلمي وتجربته التعليمية كانت كافية لتعيينه أستاذا مساعداً، والفرق كبير بين الدرجتين العلميتين، لمن لا يعرف ذلك عن تسلسل ترتيب أعضاء الهيئة التعليمية في الجامعات ورواتبهم أيضاً. فالفرق بين الوضعين يصل إلى ثلاث مراتب وظيفية.

عندما هاتفته لأبشره بنجاح مساعيّ في تعيينه أستاذاً مساعداً، وكان أساتذة الجامعات يتقاضون تعويض تفرغ علمي بنسبة 200% من الراتب المقطوع في ذلك الوقت، مما يجعل الفرق بين العمل في أي من وظائف الدولة وبين التعيين في الجامعات كبيراً جداً، أجابني بغير تردد معتذراً عن قبول المرتبة التي بشرته بها. استغربت معاتباً وقلت: أبعد كل هذا الجهد ترفض التقديمات التي قدمتها لك؟ وأردفت: هل تستقبلني في المنزل لمناقشة هذا الموضوع؟ ونهضت مباشرة وذهبت إليه لمحاولة إقناعه بذلك، اعتقاداً مني أنه يجهل الفرق الكبير في الراتب والتعويضات التي سيتقاضاها عما كان يتقاضاه في وظيفته. أصر الدكتور داود على الرفض موضحاً ما يلي: أنا عضو في الحزب، وأعتبر أن القرار الحزبي بتكليفي بأي مهمة أمر مقدس، وقد طلب منّي الحزب أن أكون مدير مكتب تسويق النفط في رئاسة مجلس الوزراء، وأنا أعطيت الموافقة على ذلك. ظننت للوهلة الأولى أن راتب وتعويضات رئيس مكتب تسويق النفط أعلى من التعويضات الجامعية أسوة بما يحصل عليه مديرو المؤسسات النفطية في دول العالم، ولكنه أوضح لي عكس ذلك وقال: يا مطانيوس، أنتم في الجامعة تسعون لإعداد بنّائين للوطن، ومن يعلم؟ قد تنجحون وقد لا تنجحون! أما أنا فسأسعى لأكون من العاملين في البناء مباشرة وأختصر الزمن. وبالطبع، لم يستفد الدكتور داود من موقعه، كما يفعل الكثيرون غيره، وقد تأكدت من ذلك من المعلومات التي كانت تتسرب عن سلوكه وحرصه على أي (سنت) لمصلحة الشعب السوري، ولم تظهر عليه علامات الثروة التي ظهرت على من تبوأ مراكز أقل منه بكثير، مما زاد من احترامي له وحرصي على تمتين علاقتي معه.

تكررت لقاءاتنا، وكنا نناقش المواقف السياسية والسلوك الوظيفي في أجهزة الدولة، نتفق أحياناً ونختلف في كثير من الأحيان في المواقف السياسية، وكان يكرر دائماً: يكفي سورية أنها تقف مع معسكر التقدم ضد الإمبريالية والاستعمار، وهي دائماً في خندق المقاومة الوطنية والقومية، لنغفر لها بعض المواقف التي لا نتفق فيها مع موقف السلطة! والكمال في الخالق وليس في المخلوق، ويردد شطراً من بيت شعر:

كفى المرء فخراً أن تعد معايبه!

في آذار 2011 دخلت سورية في نفق مظلم، وكنت ألتقي الدكتور داود لنناقش قضايا الوطن، وقد أصبح عضو مكتب سياسي في الحزب، وكان يزودني ببعض ما يكتب في صحيفة الحزب وينتقد بعض السلوكيات، ولكن الألم كان يعصر قلبه على ما حصل لسورية الوطن والحضارة والتاريخ.

رحل المرحوم الدكتور داود حيدو وقد خلّف إرثاً واسعاً من العمل الوطني والقومي والأممي، وترك للأجيال منارة يجب أن تهتدي بها، ولكنه رحل متألماً على ما وصلت إليه سورية، وأنا متأكد أنه يراقب من عليائه بألم كبير ما وصلت إليه أوضاعنا.

سيبقى الدكتور داود حيدو منارة للأجيال الوطنية والقومية في سورية وللمناضلين القوميين والأمميين ضد الإمبريالية والصهيونية والظلم في العالم. كان نصيراً لقضايا الشعوب المضطهدة ومدافعاً شرساً عن حقوق الجماهير الكادحة وفي مقدمتها الطبقة العاملة .

ستبقى نبراساً شامخاً في ذاكرة المخلصين الشرفاء في هذا البلد.

العدد 1105 - 01/5/2024