من لجّة الموت والدمار.. السوريون يصرخون: كفى!

بضعة أيام تفصلنا عن نهاية عام آخر أُضيف إلى عمر شقاء السوريين وألمهم وقهرهم وذلهم، الذين ما زالوا يرزحون منذ قرابة الثلاث سنوات تحت سطوة عنف متعدد الصور والاتجاهات.. عنف لم تشهده البشرية في أيّ بلد آخر، عنف امتزج بهدر حياة وكرامة الإنسان أينما كان، حتى غدا مجرد رقم لا أكثر. عنف طال البشر والحجر، لم يفرّق بين طفل ورجل، أو مسنٍّ وامرأة.. عنف قائم على رفض الآخر وإقصائه حتى الموت. فقد نزح أو هُجر عشرات الآلاف خارج بلادهم، وعشرات آلاف أخرى تبحث عن مأوىً آمن داخل البلاد، حتى ضاقت بهم الشوارع والمدارس وسواها من أماكن لم تعد تتسع لأعداد أخرى تنتظر من يؤويها أو يمد لها لقمة تدفع عنها غائلة الجوع أو لسع البرد والثلج، حتى بات أولئك البشر مجرد مادة إعلامية تتناقلها وسائل الإعلام لغايات وأهداف خاصة بها بعيداً عن كل الجوع والقهر والموت الذي يلاقيه السوريون أينما حلوا.

آلاف النساء الثكالى اللواتي فقدن فلذات أكبادهن أو أزواجهن أو إخوتهن وذويهن، على مذبح العنف والحقد والكراهية، وآلاف أخرى من الأرامل اللواتي تُركن لمصير مجهول مع أطفال طالهم العنف بأبشع صوره. آلاف من نساء وفتيات اغتُصبن فقط لمجرد أنهنّ إناث يمثلن شرف العائلة والمجتمع. وآلاف أخرى منهن تمّ استغلالهن في مناطق اللجوء في شبكات الدعارة الدولية وتجارة الرقيق الأبيض، أو من خلال تزويجهن تحت مسميات متعددة هي مجرد غطاءً لتجارة الجنس. آلاف النساء ينتشرن على مساحات المدن متسولات يفترشن مع أطفالهن شوارع ضاقت بهنّ وبأنينهن.

آلاف الأطفال شُردوا وحرموا بيوتهم ومدارسهم وألعابهم، وآلاف أخرى منهم شهدوا دمار بيوتهم ومقتل أهلهم أو اختطافهم، أو حتى شهدوا اغتصاب أمهاتهم وأخواتهم، وآلاف أخرى منهم تشردوا في شوارع المدن يتسولون أو يعملون بمهن لا تتناسب ونموهم العمري والعقلي، من أجل إعالة أُسرهم بدل أن يكونوا على مقاعد الدراسة. وبعضهم يجري استغلاله وتجنيده في الأعمال العسكرية في مناطق النزاع، دون تقدير ما ستؤول إليه أحوالهم النفسية، بعد ممارسة القتل والعنف الذي يقومون به، وبالتالي سنكون مستقبلاً أمام مجتمع سمته العنف ورفض الآخر.

آلاف السوريين يبيعون أعضاءهم البشرية في بلدان اللجوء مقابل لقمة عيش لا تسمن ولا تغني، وآلاف أخرى ربما تتم سرقة أعضائهم وبيعها لأثرياء الخليج وسواهم.

آلاف السوريين فقدوا بيوتهم وأعمالهم أو متاجرهم ومصانعهم، وآلاف أخرى من المخطوفين أو المعتقلين شُرّدت أسرهم أو تعرّضت لأقسى أنواع العنف أو الإذلال.

آلاف البيوت المدمّرة باتت ركاماً تنوء تحته أعوام وذكريات صارت مجرد أطلال حزينة ودامية. وبيوتٍ أخرى نُهبت وبيع أثاثها في أسواق مشبوهة حتى صار أصحابها مشردين ينتظرون يد العون من المجهول، وربما لاذوا ببيوت نهب إيجارها كل مدخراتهم، بسبب جشع البعض الذي اتخذ أزمات الآخرين مطية سهلة لتكديس الأموال.

أزمات متتالية تعاقبت على رؤوس السوريين، من فقدان للسلع، أو احتكارها من قبل تجّار الأزمات الذين استغلوا كل فرصة، لتضخيم ثروتهم ولو على حساب جوع الملايين وبردهم وتشردهم دون رادع أو رقيب، غلاء لا يُفارق الأسواق، رغم كل تصريحات السياسات المالية والاقتصادية التي وعدت بتحسّن الأوضاع، وأجور ورواتب تكاد لا تكفي أياماً قليلة من الشهر. والوضع الصحي ليس بأفضل حالاً عن غيره، إذ دفع غلاء الدواء والطبابة العديد من المرضى إلى الامتناع عن زيارة الطبيب والاكتفاء بوصفات شعبية  لم تمنع انتشار العديد من الأمراض التي كانت قد اختفت.

كل هذا في ظل وضع أمني هش حتى في المناطق شبه الآمنة التي اندحر فيها الأمان أمام القذائف اليومية التي تغتال الأطفال في مدارسهم والمواطنين في بيوتهم وأعمالهم، وكان هذا الأمان أكثر هشاشة عندما تلاشى أمام ما أصاب مدينة عدرا العمالية، التي تُعتبر نموذجاً مُصغراً للمجتمع السوري بتنوعه وتعايشه، وكأنها رسالة لجميع السوريين عن رداءة وفظاعة ما ينتظرهم، رغم كل الأوضاع اللاإنسانية التي يعايشونها منذ اندلاع الأزمة، ما جعلهم يتجرعون قسوتها على أمل أن تخف حدّة الحقد والدمار والموت المجاني، وأن يكون هناك حل يُخرجنا جميعاً من هذا النفق المظلم والمهلك، لكن أن تتفاقم الأمور يوماً بعد يوم، وساعة إثر أخرى على نحو فجائعي أكثر من سابقه، فهذا ما لم تعد للسوريين قدرة على احتماله أمام استراتيجية التوازنات الدولية التي لا تقيم للسوري أيّ اعتبار، مقابل مصالح دولية تجعل من مؤتمر جنيف بوابة الخلاص في الوقت الذي لا يشي بذلك، كما تُشير الأجواء، فيبقى السوريون مجرد أوراق في مهب رياح تلك التوازنات. لذا بات معظم السوريين في الداخل والخارج ينشدون الخلاص والأمان قبل أي شيء آخر، وهم يصرخون في وجه هذه الحرب اللعينة.. كفى نريد الحياة آمنة وكريمة!

العدد 1105 - 01/5/2024