من البلقان إلى كييف مروراً بسورية… هل نحن أمام حرب عالمية ثالثة؟

شرارة الحروب من البلقان

على الرغم من التخلص من السيطرة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر، فإن الشعوب اليوغسلافية آنذاك لم تستطع تنفس نسيم الحرية طويلاً، ذلك أن الصرب في عام 1912 تحالف مع اليونان وبلغاريا، ونشبت حرب ضروس بينهم وبين تركيا. وكانت نتيجتها الانتصار النهائي على تركيا.

في حزيران عام 1914 نشبت الحرب العالمية الأولى وانطلقت من مدينة (سراييفو) في يوغوسلافيا، ونشبت المعارك الطاحنة على الأراضي الصربية.

وخلال أقل من عام منذ نشوب الحرب العالمية الأولى، أي في عام 1915 قام المهاجرون من الأراضي اليوغوسلافية إلى لندن بتشكيل لجنة يوغوسلافية مهمتها النضال في سبيل حقوق الشعوب التابعين لهذه اللجنة التي قامت بتوحيدهم.

لقد توسعت هذه اللجنة توسعاً كبيراً كان له أثره الإيجابي على جميع الشعوب اليوغسلافية، ذلك أن الصربيين والكروات وبعض الشعوب السلافية الأخرى الذين كانوا معبئين بالقوة في الجيش الهنغاري والنمساوي، فروا جميعاً والتحقوا بهذه اللجنة. وهكذا في عام 1918 تحقق حلم الشعوب البلقانية وشكلوا مملكة تسمى مملكة الصرب، التي كانت تضم الصرب والكروات والسلفيان الآخرين.

وعلى الرغم من تحقيق هذا الحلم لم يستتب الاستقرار والهدوء في هذه المملكة، وذلك بسبب الخلافات القومية والعرقية التي نشبت، حتى إن هذه المسألة وصلت إلى تبادل إطلاق النار بين النواب الممثلين لمختلف القوميات في البرلمان الصربي عام 1928.

في بداية الأربعينيات وعلى الرغم من الخلافات القومية الناشبة بين الشعوب اليوغسلافية، لم تقف يوغوسلافيا موقف الحياد من الخلافات التي نشأت بين دول أوربا، ففي آذار عام 1941 وقع رئيس الحكومة اليوغوسلافية معاهدة مع الألمان، انضمت يوغوسلافيا على أساسها إلى الحلف العسكري الذي تزعمته آنذاك ألمانيا الفاشية إلا أن الشعوب اليوغسلافية بأكثريتها الساحقة تصدت لهذه المعاهدة وتمردت عليها، وبدأت الكفاح المسلح ضد السلطة اليوغسلافية والفاشية معاً، وبدأت تنطلق الشعارات الشعبية قائلة: (نعم للحرب الداخلية، يسقط التحالف مع الفاشية).

ونتيجة لهذا الموقف، شن الفاشيون الألمان بتاريخ السادس من نيسان عام 1941 غارة جوية بمئات الطائرات على مدينة (بلغراد) اليوغوسلافية وأمطروها ب360 طناً من القنابل المدمرة. دافع البيلغراديون عن مدينتهم بشجاعة وبسالة، ودمروا أكثر من أربعين طائرة قاذفة فاشية. وعلى الرغم من المقاومة الضارية استطاع الفاشيون قتل ثلاثة آلاف من سكان المدينة وتدمير سبعمئة بناية، وتدمير محطة قطارات تدميراً كاملاً، كما دمروا مبنى البريد، وامتدت ألسنة اللهب لتحرق 840 ألف كتاب من الكتب النادرة والمخطوطات القديمة التي لا تقدر بثمن، والتي كانت موجودة في المكتبة الوطنية.

انهيار الدومينو وفكرة الاتحاد السلافي

مع انهيار الاتحاد السوفييتي وتبدد المنظومة الاشتراكية، نشبت الحرب الأهلية في يوغوسلافيا، وبدأت القنابل الأمريكية تتساقط على الأرض البلقانية بذريعة حماية أوربا من ما سمي في حينه: (الطاعون الرمادي) لتبدأ عملية انهيار الاتحاد اليوغسلافي.

إن الأرض البلقانية التي انطلقت منها شرارة الحرب العالمية الأولى، والتي بليت بكوارث الحرب العالمية الثانية والتي اشتعلت بنيران الحرب الأهلية، كانت مرشحة لتنطلق منها الحرب العالمية الثالثة كما صرح عدد من المؤرخين ورجالات السياسة المخضرمين، لأنهم يعتقدون أن الحرب الأهلية البلقانية كانت استمراراً لمخطط ضرب أي تحرك وحدوي وتدمير أي خط خلفي للعودة إلى أي اتحاد أو ما شابه ذلك من شأنه تقوية روسيا، وخاصة عندما بدأ التفكير بالاتحاد السلافي منذ عام ،1997 عندما وقع كل من رئيس روسيا وروسيا البيضاء على اتفاق الوحدة بينهما، الذي بدأ العمل به منذ عام ،1998 بسياسات اقتصادية وأمنية موحدة، ثم دُعيت كلّ من أوكرانيا وكازخستان وصربيا للانضمام إليها، مما أخاف الغرب وأكد التوقعات الأمريكية من أن تشكل الدولة السلافية مكان الاتحاد السوفييتي السابق، فذلك يجعل روسيا في وضع أقوى مما كانت عليه أيام الاتحاد السوفييتي، لان روابط الدولة الجديدة ستكون أقوى وأمتن. فالجامعة السلافية إن صح التعبير تعتمد على فكرة وحدة العرق السلافي، (بالرغم من البعد الجغرافي بين سلاف الغرب والشرق والجنوب) والتاريخ المشترك والقيم الثقافية المتشابهة والمذهب الديني الأرثودوكسي الذي يجمع الشعوب السلافية تحت سقف كنيسة واحدة.

أوكرانيا تعرقل وحدة السلاف

لكن هذه الدعوة للوحدة لم تلق الدعم والتأييد والحماسة من أوكرانيا وخاصة في الشطر الغربي منها، الذي يتلقى الدعم من الدول الأوربية الغربية وأمريكا، ويتغلغل فيه اليهود بكل المفاصل المالية والإعلامية وقد نظموا حملات إعلامية ضد الاتحاد السلافي، بذريعة أنه يمثل خطراً على الاستقرار في أوربا وخاصة بعد أن ينضم الصرب إليه (وهم معروفون بتاريخهم السياسي العنيف من خلال المذابح الجماعية التي ارتكبوها بحق الأقليات غير الصربية، وخاصة مسلمي البوسنة والهرسك).

بهذه الحرب الإعلامية المكثفة هاجموا فكرة الوحدة السلافية، وعلى هذا الأساس جرى دعم الثورة البرتقالية الأوكرانية التي قادها الموساد الصهيوني معتمداً على رأس الحربة يهود أوكرانيا، لكن هذه الثورة فشلت كما هو معروف عام 2010 ودخول رئيسة الوزراء يوليا تيمو شينكو إلى السجن بملفات فساد كبيرة، واستلام الحكم في أوكرانيا من قبل رئيس موالي لروسيا وتطلعاتها.. هذا الأمر لم يرقَ للغرب بتاتاً وخاصة التقارب الروسي – الأوكراني، وانطلاق فكرة الاتحاد مجدداً وهذه المرة بشكل أوسع ليصبح الاتحاد الأوراسي، وخاصة إذا علمنا أن أوكرانيا تسلمت رئاسة رابطة الدول المستقلة منذ بداية العام الجاري من بيلاروسيا، وتعهد الرئيس الأوكراني آنذاك القيام بخطوات توحيدية مع دول الرابطة المستقلة، الأمر الذي أدى إلى التدخل المباشر من قبل الاتحاد الأوربي وأمريكا في الشؤون الداخلية لأوكرانيا، لتغير قواعد اللعبة ومحاصرة موسكو والضغط عليها لتغير مواقفها الداعمة لسورية الدولة الوطنية العلمانية المقاومة للإمبريالية والصهيونية، وضد مشاريعهما المشبوهة في المنطقة

دور سورية المحوري في اللعبة الدولية

هل تتطور هذه الحرب السياسية والدبلوماسية إلى حربٍ عسكرية وعالمية؟ يعتقد كثيرون أن ذلك يتوقف على صمود الشعب السوري وجيشها الباسل، فسورية هي بيضة القبان في استقرار الوضع الدولي، وهي التي أعطت ورقة الاعتماد لروسيا وعجلت بتغيير قواعد اللعبة الدولية، وبتغيير موازين القوى العالمية وتجسيد وترسيخ دور روسيا كدولة عظمى على المسرح الدولي، بدعم من حلفائها وأصدقائها في دول الرابطة المستقلة ودول البركس ومنظمة شنغهاي، وغيرها من التكتلات السياسية المعادية لسياسة الهيمنة الأمريكية وأحادية القطب، لكن من المؤكد أن صمود سورية يبقى العامل الأهم و المفتاحي في تركيب هذه المعادلة، وخاصة بعد النجاح الجزئي للإمبريالية في أوكرانيا، والمحاولات التي لا تتوقف لزعزعة استقرار فنزويلا والحصار الجائر والمستمر على كوبا.

هناك سؤال: هل تعلن الحرب العالمية للمرة الثالثة من البلقان، أو من إحدى الدول السلافية، أو من ما يسمى بالشرق الأوسط وتحديداً من سورية، أو تكون الشرارة من أمريكا اللاتينية وتحديداً من فنزويلا؟ الأيام القليلة القادمة ستظهر ذلك بالتأكيد.

يقول قائل: احذروا وانتبهوا أيها الأمريكان، فإذا غضب الدب الروسي، فلن تستطيع قوة على وجه الكرة الأرضية من الوقوف أمامه، فلا تحسبوا صبره ضعفاً، ولا تأنّيه خوفاً، فهو وديع كالسنابل وواضح كطلقة مسدس… فهذا الدب الروسي العظيم الذي قدم أكثر من عشرين مليون شهيد هو من هزم الفاشية والنازية ومرغ أنف هتلر وأتباعه بالطين، كي يعيش العالم بسلام وحرية، وهو اليوم قادر أكثر من أي وقت مضى على تطهير الكرة الأرضية من الفاشيين والنازيين الجدد، فلا تستفزوا الدب الروسي المسالم والوديع!.

شبه جزيرة القرم

* مسرح الأزمة الراهنة بين روسيا وأوكرانيا، منطقة يعود ولاء سكانها لروسيا، وهي مفصولة جغرافياً وتاريخياً وسياسياً عن أوكرانيا، كما أنها تستضيف أسطول البحر الأسود الروسي.

* تتهم أوكرانيا روسيا بغزو القرم، فيما تقول موسكو إن الحكومة الأوكرانية الجديدة فاقدة للشرعية، وتشكل تهديداً لسكان القرم من ذوي الأصول الروسية.

* تمتد شبه جزيرة القرم في البحر الأسود، ولا تتصل بالبر القاري إلا من خلال شريط ضيق من جهة الشمال، ويمتد من جهتها الشرقية شريط أرضي يكاد يتصل بالأراضي الروسية.

* لم تصبح القرم جزءاً من أوكرانيا إلا في عام ،1957 عندما قرر الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف، وهو أوكراني الأصل، إهداءها إلى موطنه الأصلي، ولم يكن لذلك القرار أثر عملي إبان الحقبة السوفييتية، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه عام ،1991 أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً من أوكرانيا المستقلة، ولكن رغم ذلك مازال أكثر من 60% من سكانها يعتبرون أنفسهم من الروس.

* استولت روسيا على القرم أصلاً في أواخر القرن الثامن عشر، عندما دحرت جيوش الإمبراطورة الروسية كاثرين العظمى تتار القرم الذين كانوا متحالفين مع العثمانيين، ويريد التتار أن تظل شبه جزيرة القرم جزءاً من أوكرانيا، وتحالفوا مع المحتجين المناوئين للرئيس يانوكوفيتش.

العدد 1105 - 01/5/2024