دور الكاتب في التأثير على المجتمع

لا يزال مفهوم الكاتب واحداً من تلك المفاهيم التي يكتنفها اللَّبس ويعتريها غموض يجعلها عسيرة أمام تحديد معالمها بوضوح. ولا تزال الصورة الذهنية المرسومة عنه تحدد ماهيته بشخص أمسك قلماً واتجه إلى ورقة يسوِّد بياضها بحروف يسطرها بمداد ذلك القلم، حتى إذا أنهى هذه العملية دفع بأوراقه (السوداء) إلى جهة تنشرها له، وبذلك يحوز لقب (الكاتب).

إن هذه النظرة – إلى مفهوم يحتل على الساحتين العلمية والثقافية مكانة قلَّما تتأخر عن الصدارة، إضافة إلى كونه الموجه الرئيس للبنية الفكرية بشقِّها الأيديولوجي – لا بد أن تكون ناتجة عن جهل مركب تجاوز البساطة بمراحل وأزمان.

وهذا الجهل ربما يرجع في مجتمعنا إلى ضعف الدور التأثيري الذي يقوم به صاحب اللقب، نتيجة ظروف أشرنا إليها في مقالة سابقة حول وضع الصحف والصحافة المكتوبة في البلاد.

وقبل أن ننتقل هنا إلى التوسع الرأسي في هذه الظروف، تجدر بنا الإشارة إلى أن أهمية الكاتب تنبع مما يستطيع أن يحدثه بقلمه من تغيير مشروط بالإيجابية، وحتى يتسنَّى له ذلك لا بد أن يكون ابناً بارَّاً بمجتمعه وبقضايا من يشاركونه العيش فيه، وإلا أقعد نفسه على قمة شاهقة ينظر إليهم ويُنظِّر عليهم، دون أن يستطيعوا حتى رؤيته أو سماع خطابه، مما يغريهم بالإعراض عنه، فيضربون صفحاً عن حديثه ومكانته. وهذه خطوة أولى على طريق توسعنا في بحث الخصائص والسمات التي يلزم توفرها في أرباب الكتابة. وبالانتقال إلى خطوة أخرى نقول : لا بد أن يكون للمادة المكتوبة معيار يرشح صاحبها لنيل الصفة المبتغاة، ولا أقل أن يُشترط في هذا المعيار فائدة المكتوب والرأي العلمي لكاتبه، والمقصود بالرأي العلمي ذلك المصحوب بأدلة وبراهين تدعم وجهة نظره أو تفسر اعتناقه لها.

أما الكلام المتحلل من قيود الفائدة والعلم، فذاك يصلح لأن يكون لغواً تردده ألسنة الناس في شوارعهم وسهراتهم، لا أن يطبع وينشر ليلقى به إلى جماهير القراء على أنه مقال أو كتاب.

فعلى الكاتب أن يترفع عن مستوى العوام ولغتهم، وذلك بالتأكيد لا يعني الترفع عن حاجاتهم وقضاياهم، لأنه، شاء أم أبى، يخاطب طبقة على قدر من الثقافة إن لم تكن الأكثر ثقافة باعتبارها الطبقة القارئة، وهذه ساعية أبداً إلى رفد معلوماتها بالجديد، ومن هنا فحرِيٌّ  به أن يعمل لإشباع هذه الحاجة لديها بناحيتيها اللغوية والمعرفية.

فإما أن يأتي بموضوع جديد بلغة بسيطة، أو يأتي بموضوع قديم بمصطلحات لغوية جديدة، وأكملها أن يأتي بالوجهين، فاللغة في النهاية فرع للمعرفة. أما أن يخلو موضوعه من كليهما، فأقل ما يمكن أن يوصف به أنه (مجرم)، فهو قاتل لأثمن ما يملكه الإنسان بشكل عام والقارئ بشكل خاص، وهو الوقت، ثم إنه (مبذر) لأنه يستهلك مساحات وأموالاً دون أن يعطي مردوداً، وهذا لا بد أن يعاقب بمنعه من حيازة أي وصف أو لقب يوحي بأنه من حملة الأقلام، وإلا – إن كان يجد شدة رغبة – فعليه الخضوع لدورة يتعلم فيها كيف يمسك القلم وتكتب الحروف. أما عن انجذاب القارئ للكاتب واتساع الشريحة القارئة، فهو أمر مرهون أبداً بملامسة الأخير لاحتياجات الأول وهمومه، وهو امتداد تزيده شدة الملامسة لأنها تولّد دافعاً لا ترويه إلى الكلمات الفائضة من قلم ذلك الإنسان. وعن الاستثمار العملي للأفكار التي يطرحها الكاتب والتي تعزز فاعليته الاجتماعية فهو أمر إما أن تتولاه الدولة أو تفسح المجال لمنظمات المجتمع المدني.

تبقى أمامنا الإشارة إلى داء تعاني منه المجتمعات وقلَّما يفلح في علاجه الترياق الناعم، ويتمثل في ظهور فئات تعاني شذوذاً فكرياً مخالفاً لمبادئ المجتمع السوية، ونظراً لفقرها إلى السند الجماهيري، فإنها تعمد إلى صناعة أقلام أو استئجارها ومنحها الألقاب المزيفة، لتسهم في نشر شذوذها بين شرائح الناس، وهو داء فيروسي لا تُلحَظ آثاره إلا على المدى البعيد وإن كانت أعراضه جليِّة للعيان.

والدواء الوحيد الناجع في معالجة هذا الداء، أن تكسر هذه الأقلام وينفى حملتها من جسد لو أطالوا المكث فيه لأوردوه الهلاك القريب.

العدد 1105 - 01/5/2024