«جنيف3» أم مؤتمر السوريين الوطني؟

جدلياً، هذه التراجيديا السورية لها بداية وذروة ونهاية، وثمة من يرى أن مؤتمر جنيف قد وضعنا على عتبة نهاية هذه التراجيديا، لأسباب عديدة، فقناعة السوريين بعامة تتعاظم يوماً بعد يوم، بأن عصر الرصاص مثل الرصاص أعمى، يخبط خبط عشواء، فلقد ارتوت التربة السورية بدماء أبنائها الأبرياء، وأنهك الحصار مئات الآلاف ينامون بين الأنقاض، يهددهم الموت جوعاً، وأضنى التشرد الملايين يبحثون عن زوارق النجاة فيموتون غرقاً، وهناك قناصات يمكن لأي وغد أو حاقد، أو مجرم محترف، أن يقنص بها طفلاً بريئاً، أو شابة في ميعة الصبا، الأسوأ من ذلك أن الأسلحة الحديثة قد تبيد مدينة بأكملها، من أجل القضاء على ثلة من التكفيريين والظلاميين.

وأخطر ما سيخلّفه استمرار انهمار القذائف وتدفق الدماء الطاهرة يتعلق بالمصير،مصير السوريين كافة، وما يرتسم على أديم الأرض السورية في القادم من الأيام، فماذا يعني الوطن؟ إنه تلك العلاقة الإنسانية العميقة المتأصلة، الضاربة في أعماق التاريخ المشترك، وليس قطعة من الأرض، فالعلاقة التي تقوم بين الناس هي التي تحدد الوطن، وتعطيه المعنى والقيمة والمشاعر النبيلة والطيبة.

قلة قليلة في طرفي هذه الحرب لا يأبه بذلك كله، لأنه لا يزال عالقاً في أوهام نصر مستحيل، فأية خسارة قد لحقت بنا بسبب صنيع هؤلاء؟ وأية طاقة إنسانية أسطورية يمكنها أن تعيد نسيجنا الاجتماعي إلى سابق عهده، وأن تطهّر فضاءنا من الأحقاد والثارات، وتبلسم جراح قلوب ملايين الأمهات السوريات، بعد أن اختلط الحابل بالنابل والطموح بالخيبة والمعارضين بالسلفيين، والموالين باللصوص؟ فأية إرادة سورية جماعية تنبثق من بين هذا الركام لتقول بصوت صارخ: كفى! تعالوا إلى كلمة سواء. هذه الكلمة التي ينتظرها ملايين السوريين مقيمين، ومهجرين، لن تكون إلا كلمة السوريين وحدهم، يجمعهم مؤتمر وطني في عاصمتهم دمشق. فهل يمكن ذلك؟

أجل، السوريون وليس غيرهم هم القادرون وحدهم على إنقاذ وطنهم! وللذكرى، ففي اجتماعهم التشاوري في تموز 2011 تمكنوا من رسم خريطة الحل السياسي التي مزقها عن سابق إصرار وتصميم الغلاة، والمتشددون دعاة الحسم العاجل والنصر القريب، أينما كانت مواقعهم ومراميهم، أولئك الذين استمروا في غيّهم، يرددون صيحات الحرب الذميمة، فقذفوا المسألة السورية، بأيديهم إلى الجامعة العربية ليزيد ذلك المسألة تعقيداً. أسوأ من تدخل الجامعة كان التدخل الإقليمي، والأكثر سوءاً من كليهما التدويل الذي سلم مفاتيح الحل بصورة أساسية للولايات المتحدة الأمريكية، التي لا تزال – رغم سعي دول العالم للخروج من طوق القطب الواحد – صاحبة الدور الرئيسي في رسم السياسات الدولية، لهذا توهّم البعض وعلّق الآمال وراهن على صداقة الأمريكيين، وتجاهل التاريخ القريب للعلاقات العربية الأمريكية، ونسي أن القيادة الأمريكية، وبضمنها موقع الرئيس والبيت الأبيض والكونغرس، كلها نتاج المجمّع العسكري والمالي والصناعي، الذي يمثل مصالح شركات الأسلحة والنفط التي ترى مصلحتها في إشعال الحروب في منطقتنا.

فالمخابرات المركزية الأمريكية قدمت ملايين الدولارات لإشعال الحرب الأهلية في لبنان، وأغرقت هذا البلد الصغير بالسلاح، وجنرالاتها هم الذين دمروا كيان الدولة العراقية وفككوا جيشها وقتلوا الملايين من أبناء الشعب العراقي، وعززوا الكيانات الطائفية في بناء الدولة والعراقية ومؤسساتها، وأمريكا لم تكن يوماً صديقة للعرب دولاً وشعوباً، بل هي صديقة لدولة واحدة وشعب واحد في منطقتنا يتمثل في الكيان الصهيوني، وتخضع علاقاتها مع الدول العربية كافة لهدف واحد وحيد هو حماية هذا الكيان، وتنفيذ مآربه في تفتيت أوطاننا وتمزيقها أيدي سبأ. كما أن كل موالٍ لإسرائيل في أوربا يصب الزيت على نار هذا الصراع بين السوريين. وبالتالي فإن التمادي في تدويل المسألة السورية والمراهنة على الحل الدولي سيبقي السوريين غارقين في أتون هذه الحرب لأمد طويل، بقصد تدمير هذا البلد تدميراً شاملاً، وتشويه صورته لأمد طويل.ففي السياسة الدولية كل دعم له ثمن وما من شيء بالمجان. من هنا تأتي مشروعية الدعوة إلى مؤتمر يجمع السوريين على طاولة حوار ومصالحة تعيد المسألة السورية إلى المربع الأول.

فما جرى ويجري في سورية يرجع إلى أسباب عديدة شديدة العمق والتعقيد والالتباس، ويعود فيما يعود إلى غياب الحكمة والحصافة السياسية، والعجز عن قراءة الأحداث منذ البداية، باعتبار ما يجري كان تحدياً حقيقياً لسياسات جائرة فاقمت التفاوت بين أغنياء السوريين وفقرائهم، ورمت بخيرة شبابهم إلى سوق البطالة، واستخدمت القمع رداً على مطالب الناس العادلة، وزرعت الخوف في نفوس أبناء الوطن التواقين للعيش بحرية وكرامة وإنسانية. كان جلياً أن ما يجري في سورية يعبر عن الاستجابة لنداء التغيير الذي بدأ في تونس، وانداح كالطوفان في البلاد العربية كلها، وقد حمل رايته الشباب، فاندفعوا إلى الساحات والشوارع يعبرون عن ذاتهم لا يسألون عن العاقبة، ولا عن المآل، ولا عن الربح والخسارة، فتمرد الشباب أمر طبيعي يخضعون في ذلك لقانون تاريخي، يعبر عن توقهم إلى الجديد، الذي لم يؤخذ بالحسبان. بل جرى الاستخفاف بأماني الشباب وتطلعاتهم، واستسهل أصحاب الشأن وأدها خلال أيام، وانتهى كل ذلك إلى دخول قوى متآمرة من مشارق الأرض ومغاربها إرهابيين ومجرمين وأصوليين يحطّمون، على أرضية فكر سلفي قروسطي، أحلام الشباب الديمقراطية، ويغتالون تطلعات الشعب السوري العادلة والشريفة والمحقة، ليغمر زلزال الموت والدمار وطننا الحبيب بشلالات الدماء، ويهدد وجودنا شعباً وثقافة ودولة.

ترى ألا يكفي هذا كله لإقناعنا جميعاً – نحن السوريين – بأنه لا بد لنا من التسامي، الذي يتم التعبير عنه بتحقيق معجزة الخلاص، مهما كانت ولادتها مؤلمة، إذا كانت السبيل الوحيد لإنقاذ ما تبقى دون تدمير وتهجير ويمكن إنقاذه؟!

متى تنضج القناعة بأنه لا بد من إخراج المسألة السورية من مكائد السياسة الدولية وأحابيل المحاور الإقليمية، وتناقضات الدول العربية وخصوماتها، والعودة بهذه المسألة إلى داخل الحدود السورية؟ فثمة فرق في علاقتنا مع الآخرين بين حرصنا على الاستقلالية والسيادة والتعاون، وبين الارتهان لمشيئة الغير في تقرير مصائرنا.

ومن هنا، لا بد من مقاربة أخرى نمسك فيها زمام أمورنا بكل مسؤولية ونكران ذات. فأيهما خير لنا جنيف 3 أم مؤتمر السوريين الوطني؟ ألا يمكن لمن اجتمعوا في جنيف أن يجتمعوا في الوطن؟ وخصوصاً إذا انضم إليهم آخرون، بحيث يكتمل قوام المؤتمر ممثلاً لقادة الرأي في سوريا وما أكثرهم! حكماء أغنتهم التجربة، ومفكرون مشهود لهم، كتاب وأدباء واقتصاديون ورجال سياسة لهم ماض لا غبار عليه، شخصيات اجتماعية ذات مكانة، ونقابيون يمتلكون صوتهم الخاص، ممثلو أحزاب ذات تاريخ، وممثلو منابر المعارضة الفتية وتياراتها الوطنية، أعضاء هيئات المجتمع المدني النشطاء، وهؤلاء الممثلون لا يصعب اختيارهم، من المحافظات السورية كافة، فيجسدون التنوع وفسيفساء المجتمع السوري ويسند إليهم الحق في اتخاذ القرارات التي يتفقون عليها، وأول هذه القرارات الخروج من دائرة الحرب وخطابها وإعلامها وتبعاتها. وبعد ذلك يمكن البحث في عقد اجتماعي جديد يجمع عليه المؤتمرون، يقرر بصورة أساسية الصيغة السياسية الملائمة لشعبنا، بحيث تتناول قضايا جذرية، كتحديد مدة تولي منصب رئاسة الجمهورية، وعدد الدورات التي يحق فيها الترشح لهذا المنصب، وتنظيم كيفية تبادل السلطة، وشكل العلاقة بين السلطة والمعارضة، وعلاقة المؤسسة العسكرية بالنشاط الحزبي، وتكريس مبدأ المواطنة، وطبيعة النهج الاقتصادي،وغير ذلك من الأمور المصيرية.

وبكلمة، فإن ما حلّ بوطننا يجعل كل مواطن يفكر بعقله وضميره في سبل إسكات صوت الرصاص، وإشاعة الأمن والهدوء في ربوع الوطن. وليس من المبالغة القول إننا نقف اليوم على مفترق طرق، وعلينا الاختيار بين الموت والحياة، فهل يبعث هذا لدينا القدرة والتصميم والعزم على المضي قدماً لعقد المؤتمر الوطني السوري؟ وهل يمكن لهذا المؤتمر إذا ما قُيّض له الانعقاد أن يكون قادراً على أن يختار؟ لنعش ونرَ!

العدد 1104 - 24/4/2024