الأرمن يُهجّرون من جديد

(اقّتُل أرمنيّاً تدخل الجنة) كان الشعار الذي رفعته حكومة حزب الاتحاد والترقي التركية، في محاولة منها للعب على الوتر الطائفي في الدولة العثمانية، إبان حملتها الإرهابية لإبادة سكان جنوب شرق الأناضول والمناطق المتاخمة للحدود الروسية أثناء الحرب العالمية الأولى.

هذا الشعار أعادت حكومة حزب العدالة والتنمية بقيادة الثنائي أوغلو – أردوغان استخدامه من جديد في مدينة كسب السورية، ذات الأغلبية الأرمنية، الواقعة في الشمال الغربي من سورية، في محاولتها تحقيق انتقام مزدوج من الأرمن، لأنهما يتهمان الأرمن بالتمرد على أجدادهما في أوائل القرن العشرين ويحملانهم مسؤولية الهزائم العسكرية التي تعرض لها الجيش العثماني في حربه ضد روسيا القيصرية، خصوصاً معركة (صاري قاميش)* التي تفجّر بعدها الحقد الأعمى ضد كل ما هو أرمني وسرياني وآشوري في الدولة العثمانية. ويتهمان في الوقت نفسه أحفاد الناجين من تلك المذابح بتشويه صورة تركيا في العالم، خصوصاً بعد نجاحهم في كسب اعتراف الكثير من الحكومات حول العالم بالإبادة الأرمنية ومجازر (سيفو)، التي ما تزال حيّة في وجدان الناجين من تلك المجازر وسلوكهم، رغم مرور ما يقارب القرن على حدوثها.

التمهيد للمذبحة

في شباط من عام 1915 اجتمعت مجموعة من القوميين الأتراك المتعصبين المنتمين لـ(جمعية الاتحاد التركي CUP) برئاسة الثلاثي: أنور باشا وجمال باشا وطلعت باشا. بُدأ هذا الثلاثي المتطرف بالتخطيط لإبادة السكان الأرمن الذين اعتُبروا خونة للسلطنة، وأعلم الدكتور ناظم، المخطط القيادي في الـCUP المجتمعين: (إنه يجب إتمام عملية التطهير هذه بشكل عام ونهائي، وإذا لم تتم على هذا النحو، فسيكون لذلك مشاكل وتبعات، وعليه من الضروري جداً القضاء على الشعب الأرمني بأكمله حتى لا يبقى له وجود على الأرض بعد ذلك، إننا الآن في حالة حرب ولن تكون لنا فرصة أفضل من هذه الفرصة).

وبدأت المجزرة يوم 24 نيسان 1915 بفاصل كلاسيكي من الإبادة الانتقائية، حيث أُعدم نحو 600 أرمني من أصحاب المناصب المرموقة، واتسعت بعدها عمليات الذبح للأرمن في جميع أنحاء الدولة العثمانية بطريقة مدروسة وممنهجة، فقُتِلَ الرجال وسُبِيت واُغتصِبَت النساء وخُطف الأطفال وأسيء إليهم، وترافق ذلك مع مصادرة الممتلكات وسرق المقتنيات العائدة لهم.

بعد فترة هدوء استمرت نحو عام، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، تجددت الأعمال الوحشية بين عامي 1920 1923 وتَعرّض من تبقى من الأرمن للمزيد من المجازر وعمليات الترحيل والطرد. وبعد نجاح عمليات الإبادة الجماعية شرع الأتراك بهدم بقايا التراث الثقافي الأرمني، وبضمن ذلك روائع الهندسة المعمارية القديمة التي لا تُقدر بثمن، والمكتبات القديمة والمخطوطات حتى إنهم جعلوا مدناً كاملة أثراً بعد عين لإزالة أي أثر لهذا الشعب الذي استمر وجوده على هذه الأرض (جنوب شرق الأناضول) نحو ثلاثة آلاف عام.

وهكذا قُضي كلياً على الأرمن على امتداد مساحة أسيا الصغرى وأرمينيا الغربية، ولم يبقَ ما يدل عليهم إلا بعضُ أثارٍ صمدت لتروي مأساة شعبٍ ضُحّيَ به على مذبح لعبة الأمم وشهوات السلطة لمجموعة رأت أنها في سبيل إعادة بناء دولتها لا مانع من التضحية بجميع من لا ينتمي إلى عرقها ولا يتقاطع مع هويتها الطائفية والمذهبية.

وفي إشارة إلى الإبادة الأرمنية، لاحظ أدولف هتلر ردّات الفعل الفاترة للقوى العظمى إزاء الكارثة التي حلت بالأرمن، وعندما قرر غزو بولندا عام 1939 أعطى تعليماته لفرق الشرطة السرّية ss بقتل الرجال والنساء والأطفال من العرق البولندي دون أي شفقة أو رحمة. قائلاً: (فقط بهذه الطريقة سوف نربح الفضاء الحيوي الذي نحتاجه)، مضيفاً (هل بقي أحد هذه الأيام يتحدث عن الأرمن؟).

الأرمن وسورية

العلاقة بين الشعب الأرمني وسورية ضاربة الجذور في التاريخ، إذ تعود العلاقات المباشرة لهم معها، وفق المصادر التاريخية، إلى عام 83 ق.م، فقد بقيت سورية آنذاك 16 عاماً تحت حكم المملكة الأرمنية، في عهد الملك ديكران الملقب بـ(الكبير).

كما هاجر عدد كبير من الأرمن إلى بلاد الشام أيام الخلافة العباسية هرباً من الاضطهاد الديني والسياسي الذي مارسه البيزنطيون ضدهم ونتيجة ضغط غزوات التتار على مناطق سكنهم. ومنذ عام 301 ميلادي، أصبحت حلب واللاذقية من المراكز المهمة للحجاج الأرمن في طريقهم إلى القدس، بعد أن أصبحت المسيحية دين الدولة الرسمي لأرمينيا. وفي عام 1877 انتُخب التاجر الأرمني مانوك قراجيان نائباً عن ولاية حلب في مجلس (المبعوثان الأول)، وهو المجلس النيابي في السلطنة العثمانية.

وكان أبرز منعطف مرت به علاقة الأرمن بسورية إبان الهجرات الأرمنية الكبيرة بسبب الاضطهاد التركي المتواصلة في الأعوام 1876 و1895 و1909 و1915 و1922 و1939 وبلغ عدد المهاجرين إلى سورية ولبنان نحو 125 ألف أرمني، منهم 75 ألفاً إلى حلب وضواحيها. ووفقاً للمؤرخ الحلبي الشيخ كامل فقد بلغ عدد سكان حلب 210 آلاف نسمة مع نهاية عام ،1925 وكان الأرمن يشكلون 25 في المئة من سكان المدينة. وكان الأرمن السوريون أول من أدخل إلى البلاد جهاز التصوير بأشعة رونتنغن (1897) والتصوير الضوئي (1880) وأول سيارة إلى حلب (1909) وأول جرار في منطقة تل السمن (1926)، كما أدخلوا للمرة الأولى مهن الخراطة وطرق اللحام المختلفة وصناعة بطاريات الآليات والسيارات بمختلف أنواعها، وكانوا أول من استخرج زيت الزيتون بآلات حديثة.

وشكل عام 1946 واحداً من أبرز الشواهد الناصعة على انتماء الأرمن إلى وطنهم الثاني سورية، حين أصدر مطران الأرمن الأرثوذكس لأبرشية حلب وتوابعها الأسقف زاريه بايسليان نداء إلى الجنود الأرمن في جيش الشرق كي ينضموا بأسلحتهم إلى الجيش السوري، فلبى الجنود الأرمن النداء. وقد منحه الرئيس الراحل شكري القوتلي وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى بموجب المرسوم رقم 381 تاريخ 2 نيسان عام 1946.

الأزمة السورية وتجدُّد المحنة الأرمنية

في آب 2012 وجّهَ ما يسمى بالمجلس الأعلى لقيادة الثورة السورية تهديداً واضحاً وصريحاً لـ(الطائفة الأرمنية) في سورية، بسبب ما وصفه وقوفها إلى جانب النظام السوري عسكرياً في كل من حلب واللاذقية ونصب الحواجز العسكرية المسلحة في الطرق العامة وإيواء (الشبيحة) في منازلهم، إضافةً إلى السماح لـ(العصابات الأسدية) باستخدام منازلهم كمستودعات للأسلحة وغير ذلك. وبعد سنتين من هذا التاريخ أعطت الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان ومخططها الأيديولوجي وزير الخارجية أحمد داود أوغلو الضوء الأخضر للهجوم على كسب وتكرار الجرائم بحق الأرمن التي ارتُكِبت في مطلع القرن العشرين، ولكن هذه المرة في سورية التي تشهد أرضها حرباً بالوكالة بين قوى إقليمية وميداناً للصراعات الدولية التي من شأنها رسم ملامح السياسة الدولية في القرن الحادي والعشرين.

وفي هذا الصدد، قال الصحفي البريطاني المعروف روبرت فيسك في مقال مطوّل نشره في صحيفة (الإندبندنت) إنه بعد مرور قرن تقريباً على الإبادة الجماعية الأرمنية، فإن أولئك الناس لا يزالون يواجهون الذبح وتدنيس مقدساتهم في سورية.

وأضاف فيسك: إنه في صمت إعلامي تام، أصبح الأرمن في سورية معرضين للقتل وتخريب تاريخهم في حرب جديدة.

وأشار إلى أن أبناء الناجين من المذبحة التي ارتكبتها تركيا بحق الأرمن قبل قرن، يفرون مرة أخرى من الأراضي التي التجؤوا إليها، سورية، متجهين حالياً إلى لبنان وأوربا والولايات المتحدة.

وأشار إلى أن الكنيسة التي تضم عظام ضحايا الإبادة الجماعية الأولى في القرن العشرين (هولوكوست الأرمن) في دير الزور، يجري تدميرها في الحرب الجديدة في سورية.

وفي حلب جرى تخريب كنيسة أرمنية على يد مسلحي (الجيش الحر)، المدعومين بالمال والسلاح من بعض دول الغرب ودول الخليج.

وتابع أنه في الرقة، قام مسلحون سلفيون بإشعال النيران في الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية، مشيراً إلى أن مئات المسلحين الأتراك، الذين ينحدرون من الجنس التركي نفسه الذي حاول تدمير الأرمن عام 1915 ينضمون إلى عناصر القاعدة في هجماتهم على الكنيسة الأرمنية، وتقوم الدولة الإسلامية في العراق الإسلامية (داعش) بنزع الصلبان من أعلى الكنائس وترفع عليها علمها الخاص.

إن محاولة العثمانيين الجدد في أنقرة استخدام الورقة الأرمنية في الأزمة السورية قد ترتد عليهم بنتائج وخيمة. إذ إن للورقة الأرمنية بعداً دولياً هاماً، فقضية الاعتراف بمجازر العثمانيين بحق الشعب الأرمني وغيرهم من سكان المنطقة مازالت تشكل عائقاً كبيراً أمام تحركات تركيا في الساحة الدولية، كان آخرها الاحتقان بين أنقرة وباريس الذي وصل إلى مرحلة استدعاء السفراء، وكذلك التوتر بين الحليفين التركي والأمريكي للسبب ذاته، فهؤلاء اجتمعوا على ضرورة إسقاط النظام السوري وربما تدمير الدولة السورية، لكن بروز الورقة الأرمنية في سياق تحرك المتشددين والجهاديين في سورية سيترتب عليها تحركات للجالية الأرمنية ذات النفوذ الذي لا يستهان به في العواصم الغربية، وهو ما قد يدفع الساسة أصحاب الرؤوس الحامية إلى إعادة حساباتهم تجاه ما تشهده سورية من تطورات بدأت تُعيد إلى الذاكرة تهجير مسيحيي العراق إبان الغزو الأمريكي لهذا البلد، وإن كان في تنفيذ هذه السياسات بعض الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها بعض مراكز صنع القرار الإقليمية والدولية.

ما أشبه اليوم بالأمس

إبان مذابح عام 1915 قام الجنود الأتراك ومرتزقة جمعية الاتحاد التركي المعروفين باسم (التشكيلات المخصوصة) بقطع رؤوس الرجال والأطفال، وبقر بطون الحوامل واغتصاب النساء وتشويه الأجساد، بعد أن قام بعضهم بصناعة السُّبح للصلاة من حلمات الصدور تقرّبُاً إلى الله تعالى، كما ادعوا آنذاك.

واليوم، نرى هذه التصرفات تتكرر في سورية عندما قام إرهابيو جبهة النصرة والتشكيلات المنضوية تحت قيادتها بالهجوم على ريف اللاذقية الشمالية، وكرروا ما فعل أسلافهم في الماضي. وإن كنا قد قرأنا في الكتب وسمعنا من الأجداد عن هذه التصرفات التي تثير الغثيان في نفوس الإنسان السّوي، فإننا بفضل هذه الذئاب البشرية قد رأينا بالصوت والصورة ما ارتكب من جرائم بحق نساء وشيوخ وأطفال آمنين يشيب من هولها الولدان.

وفي الموضوع نفسه، استقبل السيد الرئيس بشار الأسد يوم الخميس الموافق لِـ 27 آذار 2014 وفداً برلمانياً أرمينياً برئاسة النائب ساموئيل فارمانيان.

ونقل أعضاء الوفد للرئيس الأسد رسالة شفهية من رئيس جمهورية أرمينيا سيرج سركيسيان عبر فيها باسمه وباسم الشعب الأرمني عن إدانته للهجمات الإرهابية المدعومة تركيا على مدينة كسب بريف اللاذقية، معرباً عن شكره للدولة السورية على الجهود التي تبذلها لحماية مواطنيها جميعاً.

وعبر السيد الرئيس الأسد عن تقديره لمواقف الرئيس سركيسيان الموضوعية والداعمة لاستقرار سورية، وحذّر من مخاطر الإرهاب والفكر المتطرف الذي يدعمه الغرب وبعض الدول الإقليمية، والذي يهدد بتفتيت منطقتنا التي تميزت بتنوع ثقافي واجتماعي عبر تاريخها مشدداً على دور البرلمانيين في توضيح هذه المخاطر أمام المنابر الدولية وتوحيد الجهود لمواجهتها.

من جهتهم، أكد أعضاء الوفد الأرمني دعمهم الكامل لما تقوم به الدولة السورية من أجل إعادة الأمن والاستقرار إلى سورية وسعيها لتأمين عودة المهجرين من مدينة كسب وغيرها من المناطق إلى بيوتهم وقراهم، معبرين عن ثقتهم بأن سورية ستبقى كما كانت مثالاً للعيش المشترك والوحدة الوطنية بين جميع أبنائها.

 

(*) معركة (صاري قاميش): حدثت المعركة خلال الفترة الممتدة من نهاية كانون الأول 1914م حتى 6 كانون الثاني 1915م، وانتهت بهزيمة قاسية للعثمانيين خسروا خلالها نحو تسعين ألف قتيل.

العدد 1105 - 01/5/2024