المرجعية الدولية.. والإقلاع عن المراهنة على الحل الأمريكي

كما كان متوقعاً، وكما أشارت إليه جملة التوقعات، إضافة إلى طبيعة التحركات والتصريحات الأمريكية، لم تحقق القمة الأمريكية – الفلسطينية، الثانية خلال أقل من شهر، أي تقدم يذكر، على صعيد إحداث اختراق تفاوضي أمريكي – فلسطيني حول مسار مفاوضات الشهور التسعة التي وعد بها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري. فالقمة الثانية، على أهميتها، لم تحقق الهدف المرجو منها أمريكياً بإحداث فرق ما، يتجاوز على الأقل فشل خطة كيري نفسه ووعوده التي مهدت لهذه المفاوضات.

بداية نشير إلى أن هذه القمة عقدت بعد أيام قليلة من لقاء نتنياهو مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وما رافقها من تصريحات أظهرت مرة أخرى، حقيقة الموقف الإسرائيلي وجوهره تجاهها، وأكدته أيضاً تصريحات نتنياهو أمام مؤتمر (إيباك) وعناوينه التمسك بالاستيطان، ورفض التفاوض حول القضايا التفاوضية النهائية: (الأمن، الحدود، القدس، المياه، اللاجئين)، أي القضايا المصيرية، ومطالبته غير المعلنة التي تكفل بها كيري نفسه، بضرورة تمديد فترة المفاوضات عاماً آخراً.

هذا في ظل استمرار السياسة الإسرائيلية تجاه القضايا الخمس الرئيسية المفصلية،التي تمثل جوهر وعود كيري ذاته، وإمعاناً إسرائيلياً إضافياً في تجاوز المرجعية الدولية، التي يفترض أنها تحفظ الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المشروعة، التي تطالب بها، منذ عقود، القرارات السنوية الدورية الصادرة عن الأمم المتحدة، بوصفها المرجعية الدولية الوحيدة المخوّلة بهذا الملف و(تعقيداته).

إذ أكدت قمة أوباما- عباس الموقف الأمريكي حول تمديد فترة التفاوض عاماً آخراً، مترافقاً مع استمرار تهويد الأراضي الفلسطينية، وما يمثله من إيجاد حقائق جديدة، يراد منها فرض وقائع على الأرض تنسف عملياً أية محاولة للوصول إلى تسوية (متوازنة)، ولا تعني بالضرورة حلولاً عادلة للقضايا الخلافية.

وزادت حكومة نتنياهو، في تحدّ صارخ ل(المجتمع الدولي) وللإرادة الأمريكية نفسها، الأمر سوءاً، بالإقدام على مجزرة جديدة بشعة ضد الفلسطينيين في مخيم الصمود الفلسطيني (مخيم جنين) ذهب ضحيتها ثلاثة شهداء وعشرات الجرحى، بسبب اقتحام القوات الإسرائيلية المحتلة لهذا المخيم بعد أيام قليلة من القمة المذكورة.

المفاوضات التي أثار استئنافها تعارضاً فلسطينياً داخلياً مسؤولاً، يطالب بتجميد العودة إلى أية مفاوضات قبل التوقف الرسمي الإسرائيلي عن استمرار غول الاستيطان، الذي يؤكد المواقف الإسرائيلية المتتابعة والرسمية المثيرة للخلاف الداخلي الفلسطيني (تميز عن غيره من التباينات والتعارضات السابقة، بتعاط مسؤول وجاد) جوهره عدم الوصول بهذا التباين- التعارض إلى درجة التصادم الشعبي، مقابل مواصلة هذه السياسة الإسرائيلية من جهة، متجاهلة كل الدعوات الدولية، وبضمنها الأمريكية الخجولة من جهة ثانية. وترافقت مؤخراً، وبعد أيام قليلة فقط على انتهاء قمة أوباما – عباس بالإقدام على مجزرة جديدة، ذهب ضحيتها العشرات، في تحدّ إسرائيلي جديد لما يسمى (المجتمع الدولي) وإحراجاً للمواقف الخجولة الأمريكية، وهي تأكيد جديد على مواقف إسرائيل الاستيطانية وسياساتها التوسعية، التي تضرب عرض الحائط أسبوعياً بكل القرارات الدولية ذات الصلة.

وهذا ما أنتجته ثمانية شهور كاملة من المفاوضات العبثية، وأكدته التعارضات الفلسطينية الداخلية، حول ضرورة التمسك بوحدة المواقف الفلسطينية، وأسفر عنه ضياع ثمانية شهور، كان يفترض بالقيادة الفلسطينية في رام الله استخدامها، بهدف مواصلة إنجازاتها الدولية، وكان أبرزها نيل عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة في 26/11/،2012 وهي تتطلب اللجوء إلى مؤسسات الأمم المتحدة الأخرى: (محكمة العدل الدولية، محكمة الجنايات الدولية، اتفاقيات جنيف الأربع، مجلس حقوق الإنسان.. إلخ)، وهي مؤسسات مخولة وكفيلة بمحاسبة إسرائيل، لتجاهلها مجموع هذه القرارات الدولية، بوصفها هيئات مختصة تمتلك سلطة اتخاذ القرارات التنفيذية ذات الصلة، وفي الصدارة منها تهويد الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ،1967 واستمرار نشاط غول الاستيطان.

كما من شأن فشل هذه القمة وقبلها جولات كيري التمهيدية، على كثافتها، أن تدفع بالقيادة الفلسطينية الرسمية نحو اتخاذ قرارات مصيرية فلسطينية عنوانها وحدة الموقف الفلسطيني أولاً، والتمسك الرسمي الفلسطيني بالحقوق التي شرعنتها وقوننتها المواقف الدولية المبكرة، وأن قضايا التباين والتعارض الفلسطيني وطرق حلها باتت مطروحة أكثر من أي وقت مضى، بوصفها الخطوة الحياتية وطنياً للشعب الفلسطيني بأسره.. وفي المقدمة منها الخطوات الضرورية وطنياً لإنهاء الانقسام الفلسطيني الذي طال أمده، وامتد سنوات عديدة، لم تجلب سوى الخسائر الصافية للقضية الوطنية الفلسطينية، وأضافت إمعاناً إسرائيلياً في الاستفادة القصوى من هذه الحالة الفلسطينية، إلى جانب المتغيرات السلبية التي شهدتها المنطقة العربية في السنوات الثلاث الماضية- سنوات الخريف العربي.

هذه المواقف الفلسطينية التي باتت أكثر إلحاحاً وضرورة شعبياً ورسمياً، تزداد الحاجة لها، لتعديل أو تحسين ماهو قائم عربياً وإقليمياً، خطوة باتجاه الاستفادة من المواقف الأخيرة على تواضعها، وبخاصة المقاطعة (الدولية) لمنتجات المستوطنات، ونحو تفعيل لهذه الخطوات، على أهميتها، على الصعد الدولية كافة.

فقد أثبتت تجربة الشهور الثمانية الماضية، مرة أخرى، عقم المراهنة على الخيار الأمريكي وفشلها، لا بل ضرورة تفعيل الجهود الدولية الصديقة أو المتوازنة (اللجنة الرباعية وغيرها)، والاستفادة من عضوية المؤسسات الدولية الأخرى، بعد نيل عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، هي بمجموعها مسائل تحتاج إلى رافعة أساسية عنوانها الموقف الفلسطيني الموحد، والإقلاع عن سياسة الانقسام، وتجنب مخاطرها، والعودة إلى سياسة التوافق والتفاهم الفلسطيني – الفلسطيني، التي ساهم غيابها إلى جانب غيره من العوامل الأخرى، في تراجع الاهتمام بالموضوع الفلسطيني، بوصفه أساس الصراع في المنطقة، كما أنه أساس الحل (المتوازن) أيضاً، وما يتطلبه من خطوات عملية عربية وإقليمية، تؤسس مجدداً لموقف دولي يستند في الكثير من جوانبه إلى المتغيرات والتفاعلات الدولية الجارية.

العدد 1104 - 24/4/2024