كي لا ننسى: المهندس مراد قوتلي (1923-1998)

لم تنشر صحافة الحزب ما يكفي عن بعض من ساهموا في مسيرة الحزب، خلال حياتهم، أو بعد رحيلهم، بينما كُتب عن رفاق آخرين عدد وافر من المقالات، مما قد يُعرّف قرّاء تلك الصحافة على تاريخ الشيوعيين السوريين، بشكلٍ غير كامل.

نحتاج ،في أيامنا الصعبة، إلى تنشيط ذاكرتنا لتشمل ليس فقط الأحداث التاريخية وإنما أيضاً، الناس الذين كانوا مادتها. نتذكر، خصوصاً، من عاشوا بيننا، دون صخب، وإنما بفعلٍ مؤثر، دون أن يفرضوا علينا رؤاهم ويحمّلونا تبعات طباعهم وأحياناً: طموحاتهم الجامحة.

أحد هؤلاء الذين قصّرنا في التعريف بدورهم، هو: مراد قوتلي.

كان مراد قوتلي شخصية اجتماعية دمشقية، رشّحه الحزب إلى انتخابات عام ،1954 وبسبب كونه أحد أوائل المهندسين السوريين، فقد ساهم في تأسيس نقابة المهندسين عام ،1950 مع جيل صبحي كحالة وخليل الفرا وزهير فرح وآخرين. كان مكتبه الهندسي مع زميليه: ياسين الخولي وبسام مراد، أحد أهم المكاتب الهندسية بدمشق، في خمسينيات القرن الماضي.

يتذكره الرفاق الذين دخلوا سجن المزة (1959-1962) واحداً من أعضاء اللجنة الحزبية التي قادت العمل التنظيمي في السجن، متميزاً بغيريته وتواضعه وتهذيبه وسلوكه الهادئ وقدرته على معالجة المشاكل العادية التي تنشأ بين من يعيشون في حيزٍ ضيق، فاقدين حريتهم.

كان ما ترسله (أم مراد) إلى ابنها، من مأكلٍ وملبسٍ، ملكيةً جماعيةً بين جميع نزلاء سجن المزة، وهو ما فعله العديدون ممن سمحت أحوالهم المادية أن يتلقوا دعم أهاليهم ومساندتهم إلى داخل السجن.

كان أحد الرفاق الخمسة الذين مثّلوا الحزب في هيئة تحرير مجلة (قضايا السلم والاشتراكية)،  التي أصدرتها الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية، حتى عام 1990. والرفاق هم: مصطفى أمين، مراد قوتلي، موريس صليبي، يعقوب كرّو، خالد حمامي. كانت الهيئة، على نحوٍ ما، مكاناً لممارسة جزء من المهام التي كانت مناطةً بالكومنترن، في مراحلَ سابقة، بعيدة.

مثّل مراد قوتلي سورية في حركة أنصار السلم العالمية لسنوات طويلة، وبنى علاقاتٍ واسعة مع شخصيات مرموقة على النطاق الدولي، من خلال دوره في الحركة.

تعرّفتُ على الرفيق مراد، في الفترة التي أمضاها في براغ( مركز تحرير المجلة)، وأتذكر مع رفاقي الطلاب آنذاك بعض صفاته الشخصية المحببة. لم يكن شيوعياً متزمتاً أو متصلباً، بل تحلّى بمرونة التعاطي الإيديولوجي، بعمق وبعد نظر، مقتنعاً بضرورة إعادة النظر الدائمة بكل معتقداتنا، إذا كنا رافضين التحول إلى حركةٍ سلفية.

كانت المحاضرات التثقيفية التي ألقاها بين أعضاء منظمتنا الحزبية الطلابية الأكثر ثراءً وأثراً، ربما بسبب أفكارها غير القاطعة التي تحرّك، لدى المتلقي، قدرة التفكير أكثر مما تصبّ في العقول قوالبَ أسمنتية من مقولاتٍ جاهزة صالحة لكل زمان.

تكامل موقفه الفكري المرن مع صفاته الإنسانية الأخرى وأبرزها: تسامحه ولينه وقدرته على امتصاص أسباب الصدام، في علاقاته وحواراته مع الآخرين. فهو ليس ممن يعتقدون بأن الشيوعي الصلب هو من يتمسك برؤيته ويدافع عنها دون تراجع، وليس أبداً ممن يتعالون على رفاقهم ويزأرون في وجوههم ويوبّخونهم لقاء أي خطأ يرتكبونه، كجزء من أصول التربية (الثورية).

وفي أكثر مراحل الصراعات الحزبية، قسوةً، لا يذكر أحدٌ من رفاقنا أن مراد شارك في نزالٍ متشنج مع أحد الأطراف الحزبية الأخرى. وأجزم أنه لم يكن مقتنعاً، في أعماقه، بأسباب تلك الصراعات ولا بالمدى الذي ذهبت إليه، بل كان بمقدوره أن يلعب دوراً محورياً في تجاوز تلك الأزمات العبثية التي لم تحمل خيراً للحزب أو للوطن.

لم تضمّ قائمة أعضاء اللجنة المركزية التي انتخبها المؤتمر الثالث (التاريخي) للحزب الشيوعي (1969) مراد قوتلي، ربما بسبب أصوله غير البروليتارية، وهي مسألة شكّلت، في حينه، جزءاً من التكوين التاريخي المطلوب في القادة. ولكنه بأصوله الدمشقية العريقة لم يكن أقل تحملاً للشروط القاسية التي عانى منها، مع رفاقه، ضمن أوائل المواطنين السوريين الذين تعرضوا للقمع، بأشكاله المختلفة.

وكذلك لم يكن بين أوائل من رشحهم الحزب لمنصب وزير المواصلات (حصة الحزب في الحكومات المتعاقبة بدءاً من عام 1965) رغم أن اختصاصه في الهندسة المدنية وسماته الشخصية (عدا تاريخه الحزبي) أهّلاه لذلك. لكن الحزب رشحه بعد ذلك..وأصبح وزيراً للمواصلات.

لم تترك هذه المعاملة التمييزية أي أثر لدى مراد قوتلي، بل كان رحبَ الصدر تجاهها، مفضّلاً أن يقدّم نموذجاً آخر، غير مكترثٍ بتبوؤ المناصب، وهو نموذج مطًلوبٌ جداً لمنع ما انتشر فيما بعد، من صراعاتٍ على تلك المناصب، حزبيةً كانت أم حكومية، والسعي للبقاء فيهما أطول فترةٍ ممكنة. كانت تلك إحدى الصفات السلبية التي ميّزت الفئة الحزبية البيروقراطية، لدينا كما لدى غيرنا، ولم يستطع الحزب أن يقوّي مناعته ضدها، ويصون صفوفه من تأثيراتها المدمّرة.

عندما زرته مع الرفيق خالد حمامي، قبيل وفاته بأسابيع قليلة، كان المرض العضال قد أنهكه وامتصّ الجزء الأكبر من طاقاته، ولكنه بقي مبتسماً طوال الوقت، بل إنه أطلق بعض ضحكاته الصاخبة.

كان عارفاً بالنهاية القريبة القادمة، ولكنه بدا راضياً، فقد عاش حياته كما يليق بإنسانٍ نبيل، شجاع ومتواضع..

العدد 1105 - 01/5/2024