الجامعة العربية… بين الارتهان للغرب والابتذال السياسي

كشفت تداعيات الأزمة السورية والانتهاكات الصارخة لميثاق الأمم المتحدة وميثاق الجامعة العربية، شروخاً عميقة بين دول ظلت إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي تقيم وزناً للتحرر الوطني وللتضامن بين شعوبها ودولها، وأظهرت تناقضات في السياسات تجاه دول الجوار أو تجاه الدول المستقلة السيدة، وصلت إلى حد تأجيج الصراعات بدل إطفائها، وعسكرة النزاعات بدل المساعدة على وقف القتال، وحل الأزمات بالحوار، وبالاحتكام إلى المواثيق الدولية.

وجاءت قرارات الاجتماع الوزاري العربي الأخير بالقاهرة مثالاً على التناقض العجيب بين التصريحات الإعلامية التي تدعو إلى الحل السياسي للأزمة السورية دون تدخل خارجي من جهة، وبين القرارات الصريحة التي اتخذها الاجتماع، والداعية إلى دعم المعارضة السورية بالسلاح، وحق كل دولة عربية بتنفيذ القرار بالشكل الذي تراه مناسباً، وهو قرار يتنافى مع التصريحات التي أدلى بها الأمين العام للجامعة في موسكو بعد لقائه وزير الخارجية الروسي لافروف، وقال فيها إن الحل السياسي للأزمة هو الوحيد، ومن الضروري وقف العنف وجلوس الأطراف إلى طاولة الحوار.. ويتنافى مع ميثاق الجامعة العربية الذي لا يجيز لأي دولة التدخل في شؤون دولة عربية أخرى، أو الانحياز لأي طرف في النزاعات الداخلية، كما يتنافى مع ميثاق الأمم المتحدة.

وظهر التناقض جلياً أكثر في مسألة تمثيل سورية في الجامعة، إذ صرح العربي في موسكو أن الجامعة لم تلغ عضوية سورية في الجامعة، بل ألغت مشاركتها في الاجتماعات، وهي على اتصال دائم بالحكومة السورية، بينما قرر الاجتماع الوزاري دعوة (الائتلاف الوطني السوري) لشغل مقعد سورية في الجامعة، بعد أن تشكل المعارضة (هيئة تنفيذية) تكون أشبه ب(حكومة مؤقتة)، وهي خطوة تصعيدية ثانية بعد خطوة التسليح، جاءت بضغط سعودي قطري وإذعان مصري ودون التفات للاعتراضات العراقية والجزائرية أو التحذيرات اللبنانية من آثار مثل هذه التدابير على الأزمة السورية، أو على دول الجوار وعلى العلاقات العربية العربية.

واللافت أن خطوة الجامعة العربية (الاستباقية) جاءت إثر استشعار لتحولات في المواقف السياسية للدول الغربية تجاه مقاربة الأزمة السورية، وتفهم عدد من حكوماتها لخطورة عسكرة الصراع، ووصول الأسلحة إلى مجموعات إرهابية، واعترافها بضرورة اعتماد وثيقة جنيف لحل الأزمة سياسياً. وجاءت بالتزامن مع جولة جون كيري، وزير الخارجية الأمريكية الجديد للمنطقة، ودفعه إلى تقديم غطاء يشرعن تزويد المعارضة السورية بالأسلحة، واستعداد بلاده وعدد من الدول الأخرى تقديم معدات غير قتالية للمعارضة السورية، بينها عربات مدرعة وأجهزة اتصال. والأمر الوحيد الذي شغل بال الدبلوماسي المخضرم و(مشعل الحرائق) الجديد، هو مسألة التأكد من وصول الأسلحة إلى الأطراف المعتدلة في المعارضة، وتناسى كيري أن السوق السوداء للسلاح تزدهر في أجواء الصراعات المسلحة، والأمثلة كثيرة في آسيا وإفريقيا.

ونعتقد أن خطوة الجامعة العربية هدفت إلى الضغط على الحكومة السورية وخلق إرباكات وتعقيدات وفوضى وتدمير يؤدي إلى تعديل في ميزان القوى الميداني لصالح المجموعات المسلحة، ويعوض الجهات الداعمة انتصاراً معنوياً بعد إخفاقها في تحقيق حسم عسكري وعدت إنجازه مرات خلال عامَيْ الأزمة المنصرمين، وهدفت أيضاً إلى استباق القمة العربية الدولية أواخر الشهر الجاري، بفرض واقع يمكن تمريره، ونقل تمثيل مقعد سورية في الجامعة من الحكومة القائمة التي تتمتع بمشروعية دولية، إلى (معارضة منقسمة بلا هوية أو مشروع سياسي متعاونة مع مجموعات إرهاب دولي وجريمة منظمة)، وهذه سابقة خطيرة في أسلوب عمل الجامعة العربية قد يعصف بهيكليتها ودورها.

ونرى أن الحكومة السورية أصابت حين أعلنت أنها غير معنية بما يصدر عن الجامعة من قرارات مادامت غير مشاركة في اتخاذها، وأنها ستواصل سعيها من أجل استعادة العمل العربي المشترك على أساس احترام ميثاق الجامعة وسيادة كل دولة، وحق شعبها في معالجة شؤونه الداخلية دون أي تدخل خارجي.

ونرى أن مجابهة هذه القرارات العدوانية الجديدة للجامعة العربية التي مثلت نموذجاً للارتهان للخارج وللابتذال السياسي، هو تمتين الجبهة الداخلية عبر توسيع الحوارات واجتذاب أطياف القوى السياسية والثقافية والحقوقية إليها، وعبر تنشيط الصلات بالقوى اليسارية والديمقراطية والعلمانية والشبابية على الساحة العربية، وتعرية أساليب توظيف الإسلام السياسي لخدمة مشروعات خارجية وتجار حروب، وبيان أخطار الفوضى التي تدفع إليها دول المنطقة بغية تفكيكها وزعزعة استقرارها، وتحويل شعوبها إلى كيانات متناحرة، والمستفيد الأول من هذا المشهد الدامي هو دعاة مشروع الشرق الأوسط الكبير وإسرائيل.. أما الأراضي العربية المحتلة، والدولة الفلسطينية المستقلة، ومشروعات التنمية والشراكة العربية أو العربية القارية أو الشركات الطموحة الأخرى، فعليها أن تنتظر! وهل هناك ابتذال سياسي أسوأ مما وصلت إليه حال الجامعة العربية؟

العدد 1107 - 22/5/2024