فلنكن مستعدّين!

في الصراعات والحروب الدامية التي خاضتها شعوب الغرب، في سعيها التاريخي للوصول إلى حق طبيعي يجب للإنسان بمجرد طبيعته الإنسانية، وهو حق الحرية الذي ينبثق عنه الحق في تقرير المصير وسيادة النفس أو سيادة القانون النابع من الإرادة الشعبية، بعد أن ظلَّت هذه الشعوب ترسف في قيود الحكم المطلق والاستبداد الكنَسي ثمانية عشر قرناً، كان الأمل يحدوها في نضالها يتحطيم الأصفاد ونزعها من معاصمها لتُقيِّد بها ذلك الفرد الذي يسودها وتمنع يديه من العبث خارج إطار مصلحتها.

لقد أرادت نزع الصفة الإلهية أو المقدسة عن شخص ينتمي إلى بني جنسها، ورفضت أن تكون العناية العليا خصّته بعصمة أو حكمة مطلقة تتيح له التصرف في رعيته كيفما يشاء وحسب ما أراد.

إن كفاحها الأحمر قد أبلغها مرادها وأوصلها إلى تجربة رائدة في الفكر السياسي عُرِفت باسم (الديمقراطية)، وعُرِّفت هذه الديمقراطية بأنها حكم الشعب، ثم بدأت توضع النظريات وترسم الخطوط التنفيذية لتطبيق هذا التعريف.

وأبرز نظرياتها تلك التي تعرف بالعقد الاجتماعي لكل من الفلاسفة هوبز ولوك وروسو، أما أبرز تطبيقاتها اليوم فتقوم على تشكيل الشعب بفئاته وانتماءاته المختلفة أحزاباً سياسية تخوض معارك انتخابية فيما بينها، فالحزب الفائز يحكم والخاسر يشارك في الحكم أو يعارض دون أن تعني خسارته إقصاء أو تهميشاً، فهو في كل الأحوال يمثل شريحة شعبية قلَّت أم كثرت.

إلا أن الطبيعة العقلية والمنطقية تقتضي أن تحكم الأكثرية وتعارض الأقلية، وهذا جوهر الديمقراطية،

وإن كلاً من النظرية والتطبيق تستندان إلى قاعدة مفادها أن الشعب أساس السلطة ومصدرها، ولا تكون السلطة شرعية ما لم تكن مستمدة من إرادة الجماعة المحكومة واختيارها الحر.

ونحن في بلادنا عندما نقلنا هذه العملية أخذنا منها الشعارات والنظريات وأهملنا التطبيق، حتى لكأننا أخذنا الشوائب و الأكدار وتركنا ما صفا.

فعندما كتبنا الدساتير وضعنا بجوار كل دستور مكتوب دستوراً غير مكتوب يكون العمل به، أما الأول فنكتفي منه بالمباهاة أمام الرأي العام الداخلي والخارجي!

وعندما نقلنا التجربة الحزبية حظرنا سلفاً أن يقوم الحزب على أساس ديني أو طائفي أو عرقي أو عنصري أو… أو….، وحكمنا مسبقاً على الإرادة الشعبية بأنها لن تختاره ليكون حاكماً عليها!!

وهذا في عرف الديمقراطية هو الاستبداد بعينه، وفي عرف المنطق هو الهزل، ولو صدق أدعياء هذا الكلام فلماذا لا يتركون الحزب يقوم ويتركون الشعب هو من يسقطه أو يُحكِّمه دون أن يجعلوا من أنفسهم أوصياء على هذا الشعب – الطفل – يختارون له ما يناسبه ويمنعون عنه ما لا يصلح له.

إن حزباً يسقطه الشعب ستحلله الأيام في صمت، أما حزب يحظر قيامه الأدعياء أو يسقطه الأوصياء فسيأبى أنصاره الموت الصامت، وستبدأ سلسلة الخلايا النائمة والقنابل الموقوتة التي تودي إما إلى قلق داخلي مستمر وترقُّب وتوجُّس دائمين أو إلى انعدام الأمن وانتشار الإرهاب الاجتماعي.

ألا فلنعتبر من تجارب الشعوب ولنستفد منها في الميادين التي سبقتنا إليها، فالحكمة لا وطن لها وأنَّى وجدناها فنحن أحق الناس بها، وإلا فإن رغبنا سلك الطريق بأنفسنا فهذا حقنا، لكن دماء كثيرة وخراباً كبيراً وتشريداً ويُتماً وترمُّلا وموتاً و…و… ستعترضنا في رحلتنا، فلنكن مستعدين!

العدد 1105 - 01/5/2024