تداعيات إعلان الخلافة الإسلامية على دول المنطقة والعالم

منذ تأسيس تنظيم (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، المعروف إعلامياً باسم (داعش)، كان التصعيد السياسي والأمني والعسكري من أبرز سماتها، فمنذ 10 نيسان 2013 تاريخ ولادة هذه (الدولة) الرسمي، وهي في حركة مستمرة تزرع الخراب والدمار في أي مكان حل فيه أفرادها، ويحصد سكان المنطقة الموت والشقاء من  تصرفات أفراد هذا التنظيم، الذي أعاد لهم ذكريات غزوات المغول والتتار للمنطقة في القرون الوسطى وما رافقها من مآس وكوارث يشيب لهولها الولدان.

هذه الحركة بلغت ذروتها مع حلول شهر رمضان المبارك، عندما أطلق المتحدث الرسمي باسم (داعش) أبو محمد العدناني (إعلان الخلافة الإسلامية) واختيار زعيم تنظيم (داعش) عبدالله إبراهيم بن عواد الملقب بأبي بكر البغدادي (خليفة للمسلمين في كل مكان). فتحت عنوان (هذا وعد الله) نشرت المؤسسات الإعلامية التابعة للتنظيم خطاب العدناني الذي أعلن فيه أن (الدولة الإسلامية ممثلة بأهل الحل والعقد فيها، من الأعيان والقادة والأمراء ومجلس الشورى، قررت إعلان قيام الخلافة الإسلامية، وتنصيب خليفة للمسلمين ومبايعة الشيخ المجاهد … عبد الله إبراهيم بن عواد … وقد قبل البيعة، فصار بذلك إماماً وخليفة للمسلمين في كل مكان).

وبحسب بيان العدناني، يأتي إعلان (الخلافة) بعد أن قامت (الدولة الإسلامية) بفرض جميع الواجبات (الشرعية)، مثل تأسيس (المحاكم الشرعية) وإقامة الحدود وفرض الجزية وغيرها، بحيث لم يبق إلا (واجب واحد… أمل يرفرف له قلب كل مجاهد موحد، ألا وهو الخلافة واجب العصر المضيع).

وإعلان (الخلافة) يعني أنه أصبح من واجب كل مسلم أن يبادر إلى مبايعة (خليفة المسلمين) الجديد، وإلا مات ميتة جاهلية، كما أنه بإعلان (الخلافة) تبطل شرعية جميع (الإمارات) الأخرى.

التداعيات على صعيد تنظيمات (الجهاد العالمي)

تداعيات إعلان (الخلافة) ستنصب في جانبها الأهم على تنظيمات (الجهاد العالمي) والعلاقات فيما بينها، بينما ستكون تداعياتها على التطورات العسكرية الميدانية في كل من سورية والعراق محدودة، أو مقتصرة على جانب رفع معنويات (الجهاديين) وإعطائهم دافعاً جديداً للاستبسال في القتال، وهو الدفاع عن (بيضة الخلافة) حارسة الدنيا والدين، بحسب أدبيات فقه الخلافة في الإسلام.

ويعزز من ذلك العودة إلى خطاب المتحدث الرسمي باسم (داعش) أبي محمد العدناني المعنون (عذراً أمير القاعدة)، الصادر في الأسبوع الثاني من أيار 2014 الذي جعل فيه إعلان (الخلافة) الحل الوحيد لحقن دماء (المجاهدين)، وإنهاء الانقسام في صفوف (الجهاد العالمي)، وهو ما يشير إلى أن حالة الانقسام والخلاف التي تحولت إلى اقتتال عنيف كان لها دور في تسريع اتخاذ خطوة الإعلان عن (الخلافة)، بهدف فرض الأمر الواقع على جميع الفصائل والتنظيمات، ووضعها أمام خيارين لا ثالث لهما: (إما معنا أو ضد الخلافة).

وكانت (إمارة القوقاز) قد استبقت إعلان (الخلافة) باتخاذ موقف مناهض لـها ومؤيد لـ(جبهة النصرة). وبناءً عليه، فإن معركة كسر العظم على المدى البعيد ستكون بين (الدولة الإسلامية) من جهة و(تنظيم القاعدة) ومن ورائه (إمارة أفغانستان الإسلامية) بقيادة الملا عمر من جهة ثانية، فـ(جبهة النصرة) ليست مرتبطة بتنظيم القاعدة فقط، لأن في عنق القاعدة بيعة لأمير (إمارة أفغانستان) الملا عمر، وبالتالي فإن (النصرة) تخوض حرباً بالوكالة عن الملا عمر وأحقيته بـ(خلافة) الإسلام والمسلمين بناء على أسبقية البيعة له.

إعلان الخلافة وانطلاق حرب المذاهب الإسلامية

دأبت مراكز صنع القرار الإقليمية والدولية على التخطيط لإدخال المنطقة في أتون حرب مذهبية – دينية بهدف إلهاء شعوبها عن الأخطار الحقيقية المحدقة بهم، وأهمها الخطر الصهيوني ومشروع الدول الإمبريالية الذي يهدف إلى السيطرة على المنطقة اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً.

وإعلان الخلافة وبدئها بمهاجمة المخالفين فكرياً وعقائدياً ومذهبياً ودينياً لها وتدميرها لدور عبادتهم ومزاراتهم الدينية يصبّ في هذا المخطط. فقد سعت مراكز القرار هذه إلى إبراز مجموعات دينية متطرفة كي تتولى الحكم في المنطقة، لتعمل على القضاء على كل مظاهر الفكر والتقدم والانفتاح والتعايش بين جميع مكوناتها الاجتماعية والدينية والعرقية، وتُغرق المنطقة في التعصب والجهل.

والمحصلة المنطقية لهذا المخطط هو تفتت المنطقة إلى دويلات تُقسّم على أسس دينية ومذهبية وقومية، ما يجعل من وجود إسرائيل- دولةً يهوديةً- أمراً طبيعياً في محيط من الدويلات المتناحرة والمتحاربة بسبب الخلافات المذهبية والطائفية، وقد تكون إسرائيل حينذاك (قِبلة) تلك الدويلات التي يمكن لها أن تسعى للتحالف معها بسبب علاقات القرابة بين أبناء سارة والمنحدرين من هاجر، زوجتي النبي إبراهيم الذي تعتبره كل الأديان السماوية جدها المؤسس.

خطاب الخلافة والعودة إلى فتوى ماردين

فتوى ماردين هذه أطلقها ابن تيمية حين سئل عما إذا كان قتال التتار ومن حالفهم وظاهرهم من أهل ماردين وأهل الأمصار المحيطة بها جائزاً شرعاً، لأن التتار في ذلك الوقت كانوا مسلمين واعتبرهم البعض أولياء الأمور في البلاد التي حكموها، ولذلك حسب فقه الديني السائد حينذاك، لا يجوز قتال المسلمين أو الخروج عن طاعة ولي الأمر، أي لا يجوز قتالهم. وأهم ما تحتويه هذه الفتوى أنها أضافت تقسيماَ جديداَ إلى التقسيم الفقهي السائد لمفهوم الديار (دار كفر و دار إسلام) وما يترتب عليه من أحكام فقهية، وهو تقسيم (الدار المركبة) التي يحكمها ويمسك بزمام الأمور فيها مسلمون، ويكون قضاتها وجندها كذلك مسلمون، ولكنهم فاسقون أو ظالمون أو لصوص يسرقون مال الرعية، وهنا ينطبق عليها حكم دار الحرب من جواز قتالهم والخروج عليهم، ولكن ينطبق على عامة سكانها في الوقت نفسه وصف أهل دار الإسلام، فتجب حقن دمائهم ولا يجوز المساس بهم أو إيذائهم. وهذا ما لم يُطبق في أي وقت من الأوقات بسبب فتوى التتر، التي أطلقها أيضاً ابن تيمية، واختلاف قراءة كلمة في فتوى ماردين بخصوص غير المسلمين… ويقاتل ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه.

وقد استلهمت معظم الحركات الإسلامية السياسية الحديثة فكرها، في جواز التمرد على الأنظمة القائمة الفاسدة أو المتعاونة مع (أعداء الأمة) والاعتداء على المواطنين الآمنين، من نص فتوى ماردين هذه وروحها.

ويُعد أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة السابق أول من استعاد هذه المفردات في بداية القرن الحادي والعشرين، في خطابه بُعيد هجمات 11 أيلول 2001 حين قال: (إنّ هذه الأحداث قد قسمت العالم بأسره إلى فسطاطين: فسطاط إيمانٍ لا نفاق فيه، وفسطاط كُفْر). وتوعّد بالثأر من واشنطن بسبب ما تعيشه البلاد الإسلامية من بؤس بسببها. ولم يشّذ البغدادي عن هذا الخطاب حين قسّم العالم إلى (فسطاطين اثنين، وخندقين اثنين. فسطاط إسلام وإيمان، وفسطاط كفر ونفاق)، واضعاً في (الفسطاط الثاني) كلّ (أمم الكفر، وملله، تقودهم أمريكا وروسيا، ويحركهم اليهود).

ففي خطابه الأول الموجّه إلى رعيته، دعا البغدادي جميع المسلمين إلى (الهجرة إلى دولة الإسلام)، إذ (ليست سورية للسوريين، وليس العراق للعراقيين). وشدّد (الخليفة إبراهيم) على أنّ (الهجرة إلى دار الإسلام واجبة على من استطاع). بطريقة توحي بحرص (دولة الخلافة) على (الرعيّة)، خصّ (أمير المؤمنين) بندائه (طلبة العلم والفقهاء والدعاة، وعلى رأسهم القُضاة وأصحاب الكفاءات العسكرية والإدارية والخدمية … فالنفير واجبٌ عليهم وجوباً عينيّاً). وضمّن دعوته إشارة إلى أن (أصحاب الكفاءات) سيحظون بمكانة خاصة، ذلك أن (الناس متعطشون لمن يعلّمهم، ويفقههم). ولأن (دولة الخلافة) هي (دولة جهاد)، فقد حرص (الخليفة) على إنهاء رسالته كما بدأها بمخاطبة (جنود الدولة)، فقال مؤكداً: (لا أخشى عليكم كثرة أعدائكم… وإنما أخشى عليكم من ذنوبكم، وأنفسكم). واختتم بالتأكيد أن (هذه وصيتي لكم، فإن التزمتموها لتفتحُنّ روما، ولتملكُنّ الأرض، إن شاء الله).

هذا الخطاب، في عصر أصبحت فيه الأمم تسعى إلى الانفتاح على الآخر والتحاور مع المخالف فكرياً واجتماعياً، وبدأت فيه الدول بالعمل على تفعيل مفهوم المواطنة بغض النظر عن أي انتماءات أُخرى، وأصبح لدى بعض القوى العالمية من السلاح التقليدي وغير التقليدي ما يمكّنها من تدمير الأرض وما عليها، فما بالك بهذه الدولة؟

غير مستساغ بل هو يخالف حتى القراءة التاريخية لحركة الإسلام، إذ يُجمع المؤرخون على أن الفترة التي تُعتبر فترة الخلافة الحقيقية هي عصر الخلفاء الراشدين الأربعة، أما ما تلاها في فترة (المُلْك العضوض) منذ عصر الأمويين إلى العثمانيين الذين كانوا أشد الناس ظلماً للمسلمين عموماً والعرب خصوصاً، بعد أن منعوا عنهم وسائل العلم والمعرفة وساهموا في تخلفهم بشكل كبير. ولا تزال المنطقة حتى الآن تعاني من آثار هذا الاستعمار العثماني الذي لبس لبوس الدين.

إن مواجهة هذا الفكر تقتضي الاعتراف بأنه نبتة سامة ظهرت بيئة احتضنتها وساعدت على نموها، ولا يمكن اجتثاثها سوى بتجفيف منابعها في هذه البيئة، التي قد تنتج ظواهر أكثر تطرفاً من (داعش)، وفي مقدمة تلك المنابع استمرار الصراعات الدموية على السلطة، والتنكر لقيم الحرية والديمقراطية والتعددية والمواطنة بوصفها حقوقاً أصيلة للفرد، والمراهنة على الحلول الأمنية والعسكرية في معالجة الأزمات التي تعصف بالمجتمع، واستشراء الفساد السياسي والاقتصادي والمالي وتراجع مكانة الدولة وسلطتها، وظهور النعرات الطائفية والمذهبية بتشجيع من قوى سياسية للحفاظ على مكاسبها الفئوية، وانتشار خطاب ديني شعبوي مستمد من فترة حروب الفرنجة وغزوات المغول والتتار يحاكي الغريزة على حساب خطاب ديني يخاطب العقل ويماشي العصر ويحترم المفاهيم الإنسانية التي بشّر بها الأنبياء والمفكرون والمصلحون.

طابخ السّم آكله

منذ أن ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية، بعد أن صرّحَ أننا (لسنا عبيداً لبني عثمان)، لا يزال حلم الخلافة يُداعب خيال زعماء المنطقة. هذا الحلم تقاطع مع مخططات واشنطن لتطويع الإتحاد السوفييتي وإركاعه إبان الحرب الباردة، باستخدام الإسلام لمحاصرة موسكو وبكين والقضاء عليهما من الداخل. ومن أجل ذلك دعمت القوى المتطرفة والرجعية في المنطقة لضرب حركة المد التقدمي واليساري في المرحلة الأولى، وانتقلت إلى حرب استنزاف لموسكو في أفغانستان في المرحلة الثانية. ومع بدء تنفيذها لمشروع الشرق الأوسط الجديد لم تجد واشنطن حليفاً أفضل من هذه التنظيمات كي تكون رأس الحربة في فرض هذا المخطط على دول المنطقة مستغلة علاقاتها مع حلفائها التقليدين في دول الخليج وتركيا.

ومع بدء كوارث (الربيع العربي) التي اجتاحت المنطقة وما رافقها من ظهور تنظيم (داعش) الذي استفاد منه الجميع كل حسب مصلحته الخاصة، نرى أن المستفيد الأكبر من كل ما حصل هي (واشنطن)، إذ شقّت صفوف الجهاد العالمي وأدخلت أفراده في حرب إلغاء بعضهم ضد بعض، وأشعلت نيران الحرب المذهبية التي بشّر بها وخطط لها كيسنجر خدمةً لمصلحة إسرائيل وحمايةً لوجودها في المنطقة، وبدأت بمشروع تقسيم المنطقة على أُسس قومية ومذهبية، وأطلقت مارد التعصّب الديني والقومي من قمقمه، ما قد يُدمر دولاً ومجتمعات عديدة ويزرع الأسى والحزن في عيون كثيرة، إن لم يُحصر في المكان الذي خرج منه باكراً.

هذه الفوضى التي خلقتها واشنطن كي تخلق نظامها في المنطقة معتمدةً على المبدأ الماسوني ORDO AP CHAO أو النظام الناتج عن الفوضى، قد تضربها في عُقر دارها مسببةً لها آلاماً وأحزاناً قد تفوق أوجاع الحادي عشر من أيلول.

العدد 1105 - 01/5/2024