طوفان نهر درينا

في مدينة صربية تدعى (دزاف) وعلى الجسر الذي يعلو نهر درينا واصلاً طرفي المدينة أحدهما بالآخر يتنقل الناس يومياً رائحين غادين إلى بيوتهم وأعمالهم، أو على سبيل النزهة ذلك أن للجسر الذي بلغ من العمر 500 سنة مكانة أثيرة لديهم عدا مكانته الكبيرة لدى قراء الأدب العالمي، وذلك بفضل إيفو أندرتش الكاتب الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1961 الذي تعد رائعته (جسر على نهر درينا) من أروع ما كتب في القرن العشرين.

لسنا بصدد تناول الرواية التي تغطي 400 سنة من تاريخ الجسر وما حوله، بل سنتوقف عند الفصل الخامس منها الذي يتحدث عن طوفان النهر، وذلك لإسقاطاته المدهشة على الأزمة السورية التي قد يكون مردها تشابه الأزمات الطبيعية والبشرية، أو تشابه الأزمات بمجملها من حيث أسبابها ومجرياتها أو حتى المصادفة البحتة، رغم ذلك فإن اختلاف الأسباب لا يفسد للود قضية ولا يلغي وجود هذا الإسقاط على واقعنا اليوم.

تقول الرواية في الفصل المذكور إن الطوفانات الكبيرة تحدث في المدينة كل عشرين أو ثلاثين سنة وأنه لم يكن هناك بوادر لمثل هذا الطوفان في ذلك العام، خاصة أن وجهاء القرية الذين يمتلكون القدرة على التنبؤ بالفيضانات من خلال مراقبة منسوب النهر لم يجدوا ما يستدعي الحذر أو ما ينذر بكارثة، لكن ما حصل هو أن النهر الآخر الذي يلتقي مع نهر درينا جاء محملاً بالوحل، فسدّ مجرى النهر وجعل مياهه ترتفع، وهنا بدأ الفيضان العظيم وبدأت الكارثة الطبيعية التي لم تُبقِ ولم تذر من البيوت القريبة شيئاً، وبالتأكيد كان أغنياء المدينة قد بنوا بيوتهم بحيث ترتفع عن النهر ارتفاعاً يجنبها مثل هذه النوازل، ويقيها هيجان النهر الذي أصبح شديد العدائية، لذا لم يجد الفقراء الذين جرف الماء بيوتهم ملجأ سوى الحي الأرستقراطي، كما تحدثنا الرواية عن أحد التجار وقد ذهبت مخازنه أدراج الرياح، فلم يتحمل الصدمة ومات في اليوم التالي، حتى هنا يمكننا رؤية الكثير من عناصر الأزمة السورية سواء كانت النهر الموحل الذي تسبب بالفيضان (أو حتى تواتر الفيضانات) أو الوجهاء الذين فشلوا في استشراف المستقبل عدا قصص النزوح واللجوء والطبقات المخملية الملقحة ضد الكوارث مروراً بالأشخاص الذين فقدوا ثرواتهم وأعمالهم بلمح البصر، لكننا نرجو أن يمتد التشابه بين الرواية والواقع ليشمل الخواتيم، وبالتالي تؤول أمور البلد إلى ما آلت إليه أمور المدينة بعد الفيضان، فقد بقي الجسر الذي يجمع أوصال المدينة سليماً، وكان الفيضان وسيلة للتقريب بين الناس لا لتفريقهم وتشتيت شملهم وبذر الحقد والكره، فرغم أن (طوفاناً ضخماً هذه الضخامة يجعل المدينة كلها تتقهقر بضع سنين إلى الوراء، إذ إن الجيل الذي يشهده ينفق ما بقي له من عمر في إصلاح الأذى الذي خلفه الطوفان الكبير) إلا أنه (ما من شيء يربط بين الناس كما تربط بينهم ذكرى شقاء عانوه معاً واجتازوه معاً وعاشوا بعده معاً) كما يقول الكاتب الصربي.

العدد 1104 - 24/4/2024