من علٍ يطلّ الشاعر على ما يريد.. محمود درويش في ذكرى رحيله

يمكن لنا، في زمن مختلف، أن نذهب إلى استدعاء لا محض قامة شعرية تركت على الدوام أثرها وتأثيرها، بل وشكلت في دوائر التلقي، على اختلافها واتساعها، ذلك الجدل الثريّ بصدد ماهية الشعر وحضور القصيدة والنصوص المخترقة لأزمانها وأمكنتها.

بل هو استدعاء اضافي لأثر مرصود مازال في ذاكرة التلقي يمارس حضوره بأبعاد وتجليات بعيدة الأثر فيما تركه الشاعر الإنسان، والرائي الخلاق محمود درويش منذ أن أعلنته القصيدة، ليعلنها بذاته الشاعرة، في لحظة إنشادها الأول ربما: (سجّل أنا عربي)، ولعلها بتلك المباشرة الخطابية كانت جواز العبور ليطأ الشاعر أرض قصائده المغايرة الأخرى، ويذهب عميقاً في كثافة لحظات  اختمار الشعر وذراه الجمالية الطليقة.

كان محمود درويش مركّباً فريداً من الشاعر الإنسان، والمقاوم على طريقته الخالصة، والحالم بوطن لا يعبره الغزاة، وإن عبروه فسيكون الخطاب المضاد لوجودهم في الملح والذاكرة والأرض ذلك الوجود المستحيل.

مضى الشاعر بين برهات قصائده وملاحمه، لا لينجز بلاغة بعينها، بقدر ما كان يتفحص أساليبه وتقنياته المختلفة ليبني أكوانه الشعرية المختلفة، التي تأخذنا إلى جماليات المحسوس والمدرك والماورائي، جماليات تجربة مفتوحة بامتياز على مطلق الشعر وتيماته، غدت بحق غواية الدرس النقدي العربي المستمر، ليقف في برهاتها المضيئة تلك مستكشفاً أغوارها، ومحلقاً إلى آفاقها الحلمية، باحثاً عن الشبيه المشترك) أو تجلي الجميل، ذلك أن مغامرة الشاعر بطابعها المتخفّف من قطرية ضيقة منحته، في لحظة من لحظات التاريخ، عالمية بمعنى ما.

إن امتحان الشعر هو امتحان الذائقة، امتحان ثقافة عبرت كل محطاتها وأنجزت دالاتها فيما شكّله منجز درويش من حضور مثقف وذي حساسية خاصة، إذ لم يبحث درويش في هذا السياق عن حضوره هو بقدر ما كان يبحث عن حضور الشعر وجدليات الشكل والمضمون، والقيمة المضافة إلى ما أنجزه من سبقه، وما أسّسه هو لغير جيل قادم مازال يردد قصائده ويتماهى معها، كلما سارت تراجيديا القضية الفلسطينية إلى منعطفات جديدة. وبمعنى آخر، إن تلك التراجيديا الفلسطينية المديدة، التي كان درويش أحد أكبر شهودها الكبار، مازالت حاملة لأسئلة الإبداع، وعلى وجه الخصوص أسئلة الشعر حينما يبحث عن الشفق الممكن في عروق النصوص، ليعيد تشكيلها ويعيد المتلقي على النحو ذاته تأويلها من جديد، في ضوء خبراته ومواهبه، وطبيعة تلقيه التي يحكمها عادة المستوى الثقافي، إن جاز التعبير.

لم يكن درويش في رحلته إلى الشعر ورحلة شعره إلى الحياة التي أحبها وجعلها نشيده الخالص، لم يكن إلا ذلك الحالم الكبير، وأحد بناة الروح، وبناة العالم اليقظ لدور الشعر ورسالته وشكل دفاعه الذكي عن القضايا العادلة، وبالأخص منها قضية فلسطين، التي اقترن درويش بها أيما اقتران وأصبح سادنها.

وعلى الأرجح، أنه العلامة على تحولات تلك التراجيديا في صعودها أو مفارقات تاريخها، لأن حضور الشاعر في كل المفاصل، بالأغلب الأعم، كان يؤشر إلى المعنى من حركة الروح، حينما ترسم أفقها الخاص القابل للتغير والانعطاف، ومن ثم حضور الشعر ليزيد في سعة التأويل، نظراً إلى جماليات لا تُدْرَك، خبرها متلقي درويش ومن خلالها قرأ في التاريخ الفلسطيني وفي الميثيولوجيا الفلسطينية وفي الجغرافيا الفلسطينية الممكن الفلسطيني الذي استطاع أن يعيد تأثيث المكان، وتشييد الذاكرة على صرح اللغة، التي استطاع درويش أن يعجن منها تلك الروح الفلسطينية، وأن يجعلها تطلّ من علٍ على ما تريد، وأن يجعلها  طلقة الضوء أمام غزاة عابرين، ولم يكن الشعر بياناً بلاغياً مجرداً أو تشكيلات لغوية يظل الحاضر فيها صوت السابق، بل كان رؤيا حضر فيها الوطن كأنبل قصيدة، وارتقت أدوات الشاعر لتصوغها بشهية رغيف، وكبرياء قمح، ونشيد زنبقة مديحاً للمحارب وظل المحارب.

درويش في أبعاده الأخرى وتجلياته الشعرية، أبعد من فتنة كلام، هو ذلك العالم الثر الذي جسّد الصراع بين الموت والحياة، والعودة إلى الأرض عبر مجاز الشعر القريب البعيد، وعبر مجاز الحكاية الفلسطينية الطويلة التي يمكن استحضارها على الدوام، كلما باح الشاعر تحت ظل ياسمينة حاف الروح على بلور الكلام وعلى رخام الأزمنة، هو العارف بجدوى أن تكون القصيدة قضية وأن يكون نبل القضية قصيدة عالية لا مسافة فيها بين الحبيبة والوطن، ولا مسافة فيها بين المحارب وزناد بندقيته، ولا مسافة فيها لفكر سيظل هو المديح لصلابته وهشاشة الغازي العابر. في حضوره الآخر يظل درويش ملح هذه الذاكرة، ويظل وردها الذي يطل من الغياب ليبوح برعشة أصابعه بمعنى الوطن في زمن مختلف، وبمعنى الشعر في الإبداع المختلف، ومعنى أن يكون هو هو الرائي الطليق، الجسر الذي عبرت منه ثقافات، وهويات صمدت طويلاً أمام غزو الذاكرة ومحاولات محوها، هو بالتأكيد ذاكرة ليست للنسيان، هو جدارية القلب، خارطة وطن مباح، لكنه يقوم كل عشية ليُنهض الذاكرة على زمنها الآخر، زمن محمود درويش ومن تبعه، ولم يتعب من الإنشاد، لطالما ظل الوطن حارس مجد الشهداء.

العدد 1104 - 24/4/2024