سجين الرأي والسجين السياسي

كلما مر معي مصطلح (سجناء سياسيون)، أو (سجناء الرأي) أو (معتقلون سياسيون)، أو (معتقلو الرأي) وكثيراً ما يترادف التعبيران، وأحياناً ينفصلان، وترد هذه المصطلحات في البيانات السياسية، أو خطوط الأحزاب السياسية، أو في مقالات المهتمين من مثقفين وسياسيين، وأحياناً في بيانات المنظمات المدنية، ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية وأدبياتها، تساءلت:

هل هذه المصطلحات دقيقة وسليمة من النواحي اللغوية والقانونية والفكرية والسياسية؟ وأذكر أنه ثار جدل في إحدى هيئاتي الحزبية، أنه إذا سجن أو جرى توقيف شخص تكفيري ويحث على الكراهية والطائفية، ويرفض الاعتراف بالآخر، فهل هذا، ولولم يقتل أحداً، سجين رأي؟ أم سجين سياسي؟ ومن يدعو أعداء شعبه إلى التدخل الخارجي والعدوان على بلده، حتى يستلم السلطة هل تعتبر دعوته هذه عملاً سياسياً مشروعاً؟ وإذا اعتقل العرعور أو القرضاوي هل يعتبران من سجناء الرأي أو السياسة؟

بادئ ذي بدء، إنني أدين وأستنكر وأشجب كل نظام قمعي واستبدادي، لا يمارس التعددية والديمقراطية واحترام الرأي الآخر.

وأعتقد أن لهذه المصطلحات دلالات، ومفاهيم، ومعاني وجذوراً تعبيرية أكثر منها جذور لغوية، وقانونية، وأنها ارتبطت بالثقافة الأدبية الغربية، وهي ظاهرة صحية، من نتاج تلاقح الثقافات وتداخل الترجمات الثقافية والأدبية، فظهرت (سجناء الكلمة)، (سجناء الرأي).. إلخ. إلا أن هذه الظاهرة الصحية، بدأت تنحرف وتُستغل وتوظف في غير مكانها الصحيح، حتى بلغت درجة فقدانها لمعناها الحقيقي، فالرأي الفكري والأدبي أو السياسي والثقافي ليس في مدلوله رأي صرف، ينسجم والظاهرة الصحية، وإلا اختلطت الآراء والنشاطات التنويرية والآراء الظلامية، وكذلك أنشطة العنف القومي والطائفي والعنصرية وآراء السلام والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، وما يظهر الآن على الساحة من (داعش) و(النصرة) وزمر إسلامية كثيرة قد لا تستوعبها هذه الصفحة. ولا يمكننا أن ننكر أن لها تأثيراً في حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية والوطنية.

وأجزم أن جذر المصطلحات في عنوان المقالة وأساسها مرتبط بمسؤولية الحرية، ونشاطها في تنوير المجتمع وتطويره وتحريره من الخوف والجهل، وأنسنته، وتحرير العقل من مخلفات القرون الوسطى.

لا كما يجري الآن في الرقة ودير الزور والموصل وأفغانستان ومالي وليبيا. ولا يجوز خلط المفاهيم ووضعها في سلة واحدة، لأن التعابير قد تأخذ معاني مختلفة لغوياً، و(سجين الرأي) هي ترجمة لـ (سجين ضمير). فهل الرأي والضمير يتطابقان دائماً؟

الرأي يعني أحياناً: المشورة، ومنها اشتقت الرؤى والتهيؤات والأوهام، والرؤية تعني البصر، فهل تجتمع هذه التعابير في سلة واحدة دون ربطها بالحرية والتعبير؟ وهذا ما هدفه المتنبي بقوله: (الرأي قبل شجاعة الشجعان) ولدينا في الماركسية شيء قريب يتمثل بالكم والكيف.

أما ما يتعلق بالسجين السياسي أو الموقوف سياسياً، فللدلالة أن السجين هو من أوقف وحوكم وصدر بحقه حكم قضائي، أما الموقوف  أو المعتقل، فهو الموقوف دون حكم قضائي. وكثيراً ما تضاف كلمة (سياسي) مرادفة للموقوف أو المسجون أو المتهم، بقصد التهرب من التهمة الجنائية، وهذا ما يبرر ما كنا نسمعه من جماعة 14 آذار في لبنان عند اتهامهم لسورية بقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق (رفيق الحريري) بأن اتهامهم سياسي أو السبب في ذلك أنه لا يوجد أي تشريع وطني أو دولي أو معاهدة أو اتفاقية إقليمية أو دولية جرمت أو استخدمت مصطلح التوقيف أو الاعتقال أو السجن السياسي.

لذلك فهو محظور في جميع المعاهدات والاتفاقيات الدولية ومواثيق حقوق الإنسان. لذلك نجد أن معظم دساتير الدول تضمنت وتوسعت في الحقوق والواجبات وحرية التعبير والمشاركة في الحياة السياسية.

وإذا أخذنا دستور الجمهورية العربية السورية نجد أن مقدمة الدستور أكدت ذلك، ونصت المادة 38 منه على (تمتع جميع المواطنين بحرية التعبير عن الرأي).

وجاء في المادة 26: (لكل مواطن سوري حق الإسهام في الحياة السياسية).

لذلك يتساءل الكثيرون إذاً لماذا يعتقل السياسيون، أو أصحاب الرأي، سواء كان رأيهم سياسياً، أو اقتصادياً، أو اجتماعياً، أو دينياً، أو حتى أدبياً وفنياً؟).

هناك جريمة سياسية، يعاقب عليها القانون، وهي قديمة قدم التنظيمات، وما زالت محل جدل، وصعوبة في تحديد مفهومها. وهي تختلف من نظام سياسي إلى آخر، وتم الاتفاق دولياً على بعض المعايير، والمؤتمر السادس لتوحيد القانون الجزائي (المنعقد في كوبنهاغن عام 1935) عرّف الجريمة السياسية بأنها: (هي الجريمة الموجهة ضد نظام الدولة أو سير جهازها، وكذلك الجرائم الموجهة ضد حقوق المواطن السياسية).

ولما كان مفهوم السياسة ملتبساً ويختلف من نظام إلى آخر)، ومن ثقافة إلى أخرى، ومع تطور المفاهيم والحريات السياسية منذ الثورة الفرنسية، حتى الآن، كان الميل عند الفصل بين الجرائم السياسية عن الجرائم الجنائية لمصلحة الجرائم السياسية نسبياً، ونصت بعض التشريعات والمعاهدات على عدم تطبيق عقوبة الإعدام في الجرائم السياسية وعدم تسليم المجرمين السياسيين، وبدأت تضع بعض الضوابط مثل ضوابط للحق العام، والواقعة على الدول، والعرقية، والدوافع الدينية وغيرها، من الحد من حرية الرأي والتفكير والتعبير، إلى الخطر المشترك (الإرهاب).

في عام 1969 وقعت اتفاقية ضد الإرهاب النووي حددتها المادتان 15 و،16 وحظر الأسلحة النووية عام 1979 وحددتها المواد 11 و12 وفي عام 1999 الاتفاقية ضد الإرهاب وحددته المواد 12 و،15 وهناك تأكيدات على فصل القضاء عن السياسة.

إلا أن أحداثاً وقعت مثل اغتيال بعض الرؤساء، مما حدا ببعض الدول إلى عدم الاعتراف بالجريمة لأنها سياسية، وسبب ذلك هو اتفاقية تسليم المجرمين الصادرة في عام ،1952 فقد نصت المادة الرابعة منها على: (لا يجوز التسليم في الجرائم السياسية، وتقدير كون الجريمة سياسية متروك للدولة المطلوب إليها التسليم).. وتم استثناء جرائم الاعتداء على الرؤساء والملوك والجرائم الإرهابية.

إلا أن الأنظمة، وخصوصاً، الملكية المطلقة، والاستبدادية، كالنازية والفاشية، وغيرها، توسعت في الجرائم الجنائية لتشمل طيفاً واسعاً من الجرائم السياسية، باعتبارها جرائم حق عام، والصحافة، والنيل من هيبة الدولة، وبعض الملوك يعتبر النيل منه عداء للشعب، وهناك دول ضيقت هذه المفاهيم، لذلك أحياناً يختار المواطن أنه في الدولة الفلانية يجري تناول الرئيس، أو الملك، دون عقوبة، والتناول نفسه في أماكن أخرى عليه عقوبة، وهذا يعود إلى دستور كل دولة وقوانينها.

والقوانين في الجمهورية العربية السورية أخذت بمفهوم الجريمة السياسية، فقد ورد في المادة 195 من قانون العقوبات تعريف الجرائم السياسية (هي الجرائم المقصودة التي أقدم عليها الفاعل بدافع سياسي، وهي كذلك الجرائم الواقعة على الحقوق السياسية العامة والفردية ما لم يكن الفاعل قد انقاد لدافع أناني دنيء).

وألغى المتسرع عقوبة الإعدام وخفف أحكاماً أخرى وردت في المادة 197 وراعى موضوع تسليم المجرمين السياسيين. ونصت المادة 34 من الدستور على أنه (لا يسلم اللاجئون السياسيون بسبب مبادئهم السياسية أو دفاعهم عن الحرية).

وهناك جرائم سياسية مغطاة بقانون العقوبات، تحت فصل الجرائم الواقعة على أمن الدولة، وهناك جرائم التجسس والتعامل مع العدو، وقانون مكافحة الإرهاب، وحتى الغش في الانتخابات.

ـ عموماً بعد ما يسمى (الربيع العربي) والانقسامات الحادة في المجتمعات، والمكونات السياسية، والدينية، بدأت تظهر مصطلحات، ومفاهيم، واتهامات ليست دائماً في محلها الصحيح، وهذا يبعث على ضرورة الدراسة والاجتهاد، لوضع النقاط على الحروف، بكل جرأة وشفافية، للوصول إلى مفاهيم محددة وصحيحة، لتلافي خلط الأوراق التي سيكون المتضرر منها الشعب وحده.

العدد 1105 - 01/5/2024