كي لا ننسى: وصفي البني (1912-1983) نموذج إنساني شيوعي قولاً وعملاً

على مدى إحدى وسبعين سنة عاشها، كان وصفي البني مثالاً للصلابة المبدئية وللبعد عن أي أثر لحب الذات وللغرور، ولم يكن يهتم إلا بالتحري عما يمكن أن يساهم هو به في نصرة قضايا شعبه ووطنه.

ومع أنه يتمتع بكفاءات أدبية وقدرة على الكتابة بشتى المواضيع، وأنه نال الإجازة في الحقوق وعمل فترة محامياً وبدأ عمله منذ شبابه، وبقي يعمل إلى ما قبل وفاته ببضعة أشهر، فإنه لم يكن يملك يوم وفاته أكثر  مما كان يملك في بدء حياته، ولم يتمكن من أن يمتلك الشقة التي كان يسكنها إلا بعد أن بدأ أولاده يعملون وينتجون.

انتسب في شبابه إلى عصبة العمل القومي، وأصبح بعد ذلك رئيساً لتحرير جريدة (العمل القومي) الناطقة باسمها في دمشق، لكنه سرعان ما اختلف مع زعماء العصبة بسبب عقليتهم الرجعية وسكوتهم عما يقوم به المستعمرون الإنكليز في البلدان العربية المجاورة.

سافر إلى العراق عام 1939 وعمل معلماً في ثانوية الكاظمية ببغداد، وتعرف إلى مجموعة منظمة من الشباب العراقي الماركسي، لم يجدد العقد الموقع معه، فعاد إلى سورية وراح يفتش عن الحزب الشيوعي السوري الذي كان يعيش وضعاً سرياً وانتسب إليه.

التف حوله في حمص عدد كبير من المثقفين الوطنيين (عبد المعين الملوحي، سري السباعي وغيرهما)، وكان أحد مؤسسي عصبة مكافحة النازية والفاشية، كما كان أحد مؤسسي جمعية الصداقة السورية – السوفييتية.

انتخبه المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي في سورية ولبنان عضواً في اللجنة المركزية، وعمل في الصحف والمجلات التي أصدرها الحزب (صوت الشعب، الأخبار، الصرخة، النور، ومجلتَيْ: الطريق والثقافة الوطنية).. وترجم نشرات ماركسية، وعمل مترجماً ومحرراً في وكالة الأنباء السوفييتية وفي إذاعة موسكو، وظل على مدى سنوات طويلة يحرر زاوية (لا هوادة) في (نضال الشعب) لسان حال الحزب الشيوعي السوري.

تعرض للملاحقة كثيراً من أجهزة الأمن، خصوصاً في عهود الديكتاتورية، واعتقل أكثر من مرة وسجن، وكانت أطول مدة قضاها في السجن بين عامي 1959 و،1962 وفي كل مرة سُجن فيها كان يبدي صلابة شيوعية كاملة ويخرج من السجن مثلما كان يدخله مرفوع الرأس.

كتب عبد الكريم أبا زيد يصف لحظة دخول وصفي البني إلى المهجع في سجن المزة: (دخل المهجع رجل نحيل الجسم، ربع القامة، أبيض الشعر، صارم النظرات، حياناً قائلاً: مرحباً يا رفاق.. أنا وصفي البني.. تجمّعنا حوله كالعادة عندما ينضم إلى مهجعنا نزيل جديد لنستمع منه أخبار البلد.. فقال: تريدون أخبار البلد، ليس لدي أخبار، ولكن لدي توصية واحدة لكم من الحزب.. قلنا: ما هي؟ قال: الصمود، ثم الصمود، ولا شيء غير الصمود، فأنتم الآن محطّ أنظار العالم، وتتناقل الصحافة العالمية أخبار حملة الاعتقالات في سورية ومصر، والسلطة تحاول بشتى السبل إخراج المعتقلين منكّسي الرؤوس لكي يأتوا بالصحفيين ويقولوا لهم: انظروا إن سجوننا فارغة).

وصفه أحد معارفه بأنه كان راهباً من طراز خاص، طراز ثوري.

وإذا أردنا تلخيص مسيرة حياته بكلمات، يمكن القول إنه كان نبيلاً، صادقاً، نقياً، متواضعاً، مبدئياً، في كل تفاصيل حياته، وكم كان دقيقاً في تنفيذ واجباته الكبيرة والصغيرة!! وكان ينفذها بروح متفانية ودؤوبة دون ملل ودون شكوى ودون أن يطلب مقابل ذلك أي عرفان بالجميل!

لقد عاش وصفي البني أباً وأخاً وصديقاً ورفيقاً، حياته الغنية، كما يجب أن تعاش: نموذجاً إنسانياً مصفّى، نموذجاً شريفاً يُقتدى به في الزمن الذي تنتشر فيه كالوباء قيمٌ مشوّهة تسحق دون رحمة إنسانية الإنسان وتجعله سلعة في مجتمع الاستهلاك الطفيلي، نموذجاً يقتدى به في الزمن الذي ينبغي أن نحمي ونطوّر ونرفع إلى أعلى مستوى روح الحزب الكفاحية ويقظته الثورية، من أجل حرية وطننا وسعادة شعبنا.

العدد 1107 - 22/5/2024