غواية السؤال

هل يستطيع الإنسان التحرر من هيمنة ماضيه؟!

سؤال طالما نوقش واختلفت حوله الآراء.

ثمة من يقول بالقطيعة مع الماضي دون تمييز بين ماضٍ مشرق مضيء، وماضٍ معيق للتطور والتقدم نحو المستقبل.

الموقف من الماضي على المستوى الشخصي والوطني والقومي، وحتى الإنساني، رهن بفهم الحاضر بثقل متطلباته، وبوعي المستقبل واستحقاقاته بكل ما فيه من ضبابية وتعقيد، فكيف يمكن النظر إلى المستقبل بمعزل عن الحاضر؟

وهل نستطيع فهم الحاضر دون تملّك الماضي معرفياً؟

الماضي والحاضر والمستقبل، سيرورة زمنية، وصيرورة تاريخية، في وحدة التشكل والترابط والانصهار، وقطع العلاقة بينهما تعطيل لفاعلية التاريخ، وإجهاض لثمار النشاط البشري.

كيف يمكن لنا أن ننظر إلى السماء بأفقها المفتوح على الاحتمالات والأحلام (المستقبل)، دون أن نقف على أرض الواقع (الحاضر)، ودون أن ندرك طبيعة الأرض التي نقف عليها بتموضعاتها الجيوسياسية، والاجتماعية، والثقافية ؟…

حتى أحلامنا من الصعب، بل ربما من المستحيل، أن نصوغها ونمنحها مادية التشكل بمعزل عن ماضينا، عن نشأتنا، عن المكان الذي عشنا وما زلنا نعيش فيه، فالإنسان رهين المكان، حبيس الزمان، وقد انفتح المكان في عصرنا، كما اختصر الزمان، بفضل ثورة الاتصالات فأصبح العالم (قرية صغيرة).

عندما تقطع مع ماضيك، حتى على الصعيد الفردي، فأنت تقصّ جزءاً من جذورك الضاربة في الأعماق، تلك الجذور التي تزودك بإمكانات ومجسات الوقوف، ومن ثم النظر إلى المستقبل بكل احتمالات ممكناته التي يتوقف الكثير منها على نشاطك ومؤهلاتك في إدراك الواقع، ورسم صورة مستندة إلى العلم، في تحديد آفاق المستقبل (إذا أطلقت مسدسك على ماضيك.. أطلق المستقبل مدافعه عليك).

مما لا شك فيه أن تنقية الماضي من الشوائب والعوالق الضارة، الراسخة بقوة ثبات العادة فيه، بداية الطريق نحو المستقبل، لكن هذه العملية  تحتاج إلى جهود مضنية في الكشف عن المعوقات المترسبة من الماضي، في اللاوعي الفردي والجمعي، مما يحبط قدرات الناس على تجاوز سلبيات وتراكمات ما أثبتت الحياة استهلاكه وتآكله.

تأبيد الماضي إلى حد تقديسه وعدم المساس به، بحجة العجز عن تخطيه، وتجاوزه، تؤدي إلى عزلة عن التطور والتقدم، وتحبط آمال الناس وأحلامهم، وتطلعاتهم في تغيير واقعهم، والانطلاق إلى رحاب العالم، للاستفادة مما أنجزته البشرية، والانتقال بها إلى المساهمة في صياغة مستقبل مشرق لها.

أما القطيعة مع طرائق التفكير القديمة، وآنماط السلوك التقليدية، فهي ضرورة ملحة تمليها اشتراطات المستقبل، فبعد الثورات العلمية والمعرفية، المتراكمة على مدى قرون، لا يمكن السكون والركون إلى إنجازات الماضي وحدها، مهما كانت غنية، فنحن بأمس الحاجة اليوم إلى إنجازات أخرى، تحول مجتمعاتنا من حالة الاستهلاك والاستلاب الحضاري، إلى قوة منتجة تعي بعمق متغيرات العالم، وتطور العلوم وتفاعل المعارف، كما تمهد السبيل أمامنا أفراداً وجماعات، للدخول في عصر التفكير العلمي، والتملك المعرفي، والتأصيل الحضاري، بكل جديد من أين أتى، مادام مفيداً ويساعد على التقدم والتطور.

إغلاق النوافذ وسد الأبواب، والعزلة، لا تقود إلا إلى التخلف، والانفتاح دون تأصيل ومعرفة الخصوصيات يفضي إلى التلاشي، والتخلف والتلاشي، ما هما إلا وجهان لحقيقة واحدة هي الموات.

لا مستقبل للأفراد، ولا للشعوب، دون تملك معرفي لماضيها، ولا إمكانية لتغيير الواقع دون غوص في غياهب الماضي، والعملية جدل خلاق يستدعي مواجهة نقدية لرواسب الماضي، وانفتاحاً أكثر خصوبة على منجزات العلم والمعرفة لدى شعوب العالم، دون إحساس بعقد النقص أو تضخم للذات، فالموضوعية والمنهجية والجرأة شروط لازمة لكل عملية تتوخى الكشف عن آليات تغلغل الماضي وتسربه في الحاضر، وتحريره مما علق به ومجابهة آثاره المؤذية المعيقة للتقدم.

العدد 1105 - 01/5/2024