أين الومضة أيها النقاد؟

من المعلوم بأنّ النقاد الحقيقيين قلة، والباقين يعلّقون على النص دون مستند نقدي، وأقول هنا إنّ: (على الناقد أن يتجرّد عن الميول والرغبات، وأن يركّز على جوهر العمل الأدبي مارّاً على النقاط الإبداعية المضيئة، وإذا كان العمل النقدي يسير خلاف ذلك، فإنّما هو نقد مزاجي قائم على نظرة انطباعية عفوية أو سطحية اعتباطية).

فهل يقوم ناقد اليوم بنقد المكتوب انطلاقاً من مقاييس نقدية حقيقية، وبناءً على قراءة واعية ومركّزة، أم أصبح يبحثُ عن الومضة في المقروء، ليُطبق الكتاب قبل أن ينهيه، ويصيح قائلاً: وجدتها! وجدتها!. ها هي الومضة؟! ويبرز ناقدٌ آخر يبهره المقروء، ويدهشه العمل، ولشدة انبهاره، لا يرى الومضة، فيطبق ما بيده، قائلاً: (كتاب جيّد لكنّما لم أجد فيه ومضة)! فهل أصبح من أولى مقاييس النقد أن نبحث عن ومضة ما، إدهاش مميّز، خرمشة في الحواس، كما يقول البعض، وإن غاب هذا المقياس، ففي الأمر (لكنّ).

كلّنا يعرف أن على الناقد أن يمتاز بجملة شروط لا بدّ منها كي يتمكّن من إطلاق قيمة نقدية ومن هذه الشروط:

الذكاء أو الخبرة: وذلك بأن يكون الناقد على معرفة واسعة بالفن الأدبي الذي ينقده ، وعلاقته

بالفنون الأخرى مطلعاً على عصر الأديب ومكانته وسيرته.

المشاركة العاطفية أو ما يسمّى بالتعاطف: بأن يكون الناقد ذا قدرة على النفاذ إلى مشاعر الأدباء وعقولهم، فيرى بأعينهم ويسمع بآذانهم لعله يدرك الأشياء كما يرونها. وتتطلب المشاركة العاطفية أيضاً أن ينسى الناقد ميوله الخاصة وذوقه، وينسى ما في نفسه من قيم وأفكار، كي لا تؤثر على نقده.

 

الذاتية أو الفردية: وهي الشرط الأخير . وتعني العودة إلى النفس والخروج من فضاء الأدباء للدخول في فضاء الناقد نفسه بعد هذه النقلة أو الرحلة السالفة. وأقصد بالذاتية أن يضيف الناقد إلى مشاركته العاطفية مقياسه الدقيق الخاص به من الذوق السليم والمعرفة الشاملة الذي لا يصرفه عن سلامة الحكم والإنصاف في التقدير.

لقد برزت مؤخّرًا اجتهادات شتى لدى النقاد، فمن قائل عند تقييمه لنص قصصي سردي: (القصة جميلة لكنْ غلب عليها اللغة الشاعرية). ويشيدون بالكاتب نفسه عند قراءتهم نصًاً آخر قائلين له: (أصبح عملك أفضل بعد أن خرجت من اللغة الشاعرية)! وإذا تعب الكاتب على اللغة، وأعطاها طاقة كبيرة من خياله ومشاعره وعواطفه، قالوا: (صورك جميلة، وبيانك رائع، لكن هناك إسراف في اللغة، وطغيان للبيان، حبّذا لو اقتصدت فيهما)! وإذا جارى آخر، يقولون وسرد بلغة عادية واقتصد في لغته، وقلّل من الصور والتشابيه، تنطّح ناقد آخر ليقول له: (لغتك سليمة، لكنّها تفتقر إلى الغنى اللغوي والصور البيانية والاستعارات). (قصتك تغلب عليها المباشرة، ويفتقر النص إلى روحية السارد). (هذا شاعر منجز، وذاك غير منجز). فما العيب في اللغة الشاعرية إذا وظّفت في السرد بشكل جيّد؟ وما المانع لو تعب الكاتب على اللغة، وملأها بياناً وبديعاً؟ وكيف يكون السرد المباشر هنة، والنص قصة والقصة لا تقوم إلا على السرد المباشر أو غير المباشر، ولو كان الشاعر أو الأديب منجزاً ألا يخضع للنقد؟ أم أنّنا يجب أن نطلق رأياً وأحكاما كيفما جاءت؟ فهل من كاتب قادر على أن يرضي أذواق جميع النقاد ويقطع عليهم طريق (لكنّ)؟

وهكذا يظل النقد يدور حول عبارات مكرورة مستمدة من هذا أو ذاك. فكم من تجمعات أدبية – وما أكثرها هذه الأيام مادامت تتطرّق للسياسة- لا يقرأ معظم المجتمعين فيها نصوصاً مقدّمة للنقد والحوار، بل ينتظرون من هو أقدر منهم للإدلاء برأيه النقدي، فجأة تدب الحماسة في رؤوسهم، فينهضون للنص بناء على ما سمعوه تمزيقاً وتفتيتاً. وإذا ما بدأ أحدهم بالحديث يقول: (أنا لم أقرأ النص ولكنّني أرى من خلال ما سمعت…) ويبدأ بسلسلة من الآراء مفادها: (هذا ليس عملاً أدبياً، أين الومضة فيه؟ ولماذا الوعظ والإرشاد؟) فصاحبنا لم ير ومضة، وحكم على العمل بالفساد دون أن يقرأه باعترافه هو. وعندما يُسأل: ما دليلك؟ يقول وهو يحك رأسه: (في الحقيقة هكذا أحسست). ولهذا أقول: لا شك في أنّ هناك آراء انطباعية أولية، يمكن للمتلقّي أن يبدي رأياً على أساسها، من غير أن يقطع برأي أخير، لا بدّ من قراءة النص أكثر من مرة، لاكتشاف معطيات جديدة قد تظهر فيه، فكم من قارئ يقول: (في كل قراءة لهذا النص تطالعني رؤى جديدة). فلماذا التسرع في الحكم، والتراجع لاحقاً عنه. وهناك فئةٌ كثيراً ما تطلق أحكامها على عمل ما، من خلال سماعها للمكتوب، مستندة على ما أدلى به ناقد أو قارئ تكلّم قبله، فيبصم على ما سمع، ويؤكّده.

 أمّا الطامة الكبرى فهي الإدلاء بنقد بناء على معرفةٍ بالكاتب، فإن كان الكاتب معروفاً ومشهوراً فنقده سيكون إيجابياً بغض النظر عن المكتوب، وإن كان الكاتب مغموراً، أو معاصراً للقارئ أو معروفاً بشكل شخصي له، فيحكم عليه على ما سمع عنه، حتى دون أن يقرأ جديده. وغالباً ما يكون هذا الحكم سلبياً، ويرفضه دون أن يكلّف نفسه عناء قراءة النص قراءة نقدية مركّزة، قبل التعليق عليه.

من هنا أقول بأنّنا ما زلنا على مسافة من النقد الصادق والمدروس، القائم على المقاييس النقديّة، إلا من تمرّس من النقاد، فأدلى برأيٍ صادقٍ، وأطلق أحكاماً مكتوبة بعد دراسة مستفيضة. فبمثل هؤلاء يرقى النقد وتتم به الفائدة.

  وبرأيي، أسوأ النقاد من يتوعّد الكاتب وعيداً إذا ما طلب منه أحد الكتاب رأياً في مطبوعة أو كتاب، ولطالما قال أمثال هؤلاء النقاد: (سأسلخ جلدك وعليك أن تتحمّل، أنا لا أرحم بنقدي)! وكأن النقد مطيّة للنيل من الآخر. فكم سمعت من أصدقاء سنحت لهم فرصة أن يقرؤوا ما كتبوا أمام بعض الأدباء والناقدين، في تجمعات أدبية يقول: (سيسلخون جلدي اليوم في مناقشة عملي الأدبي). لأنّ صاحبنا الناقد سيبحث عن الومضة، وإذا لم يجدها سينتضي خنجره وهات يا تَمزيق وتقطيع، دون النظر إلى ما في النص من جماليات عامة، وأفكار هامة، وقد يكون القارئ الناقد ممن سُلخت جلودهم يوماً، فيجد الوقت قد حان لينتقم بسلخ جلد غيره، وهنا أتساءل: مادام النقد سلخ جلود عند بعض النقّاد، فلماذا هذا البعض من هؤلاء النقادِ لا ينتسبون إلى نقابة القصّابين، فيكون سلخهم للكتّاب والأدباء حلالاً؟!

ختاماً لابد من قولة حقٍّ يراد بها حقٌّ، لا تبحثوا أيها النقاد والقارئون عن الومضة، فقد لا ترونها من شدة انبهاركم بالنص، واتركوا مساحة للحب والتواصل بينكم وبين الكتاب، فلا تثيروا فيما تقولون، كي لا تثاروا عمّا يقال. فما من كمال في الجمال، فكلُّ جمال يستتر فيه قبح ما، وكلّ قباحةٍ يختفي فيها جمال ما، حتى الشوك والعشب اليابس، يظل فيهما اخضرار واعد لحياة أخرى في فصل آخر.

العدد 1104 - 24/4/2024