حدائق المعنى

(ارجع إليَّ إليَّ

ارجع إليَّ

فبعدك لا عقدٌ أعلقه

ولا لمست عطوري في أوانيها

ارجع إليَّ إليَّ

ارجع إليَّ!

ارجع كما أنت

صحواً كنت أم مطراً

فما حياتي أنا

إن لم تكن فيها؟!).

ذلك ما قالته السمراء لمعشوقها نزار قباني، ذات لوعة افتراق وحرقة شوق.

كما قالت سمراء أخرى لمعشوقها المتصوف، ذات حيرة لواحظ واعترام وجد وفورة تساؤل:

ما معنى قولك لي كلما اقتربتُ منكَ: (اقتربي أكثر، حتى لا أعود أراك).. وكلما ابتعدتُ عنكَ: (ابتعدي أكثر، كي أراك جيداً)؟

لئن كان غير خافٍ ما عنته سمراء نزار بكلامها، أن لن يكون طعم لحياتها إذا ما خلت من أنفاس المحبوب، فالأمر ليس كذلك، بالنسبة لما عناه معشوق السمراء الأخرى (المتصوف) بكلامه لعاشقته.

للعشاق أسرار،

للسمراوات خصوصية،

وللمتصوفين بركات.

للبلاد أعياد،

للأعياد شهداء،

وللكلمات معانٍ.

تأخذ الكلمة معناها الأكثر دقة ونضوجاً وحيويةً وطزاجة، مما يواكبها من زميلات الحرف ورفيقاته وأخواته، أولاً وبدايةً، وممن ينطقها، بما يُشْفعها ويُرْفقها من نظرة عين وهمسة صوت وحركة يد، تالياً ونهايةً.

غالباً ما يتجاذب شراع المعنى تياران، هما المُرسِل والمستقبِل. كلٌّ يجهد كي يُرسي المعنى على شط أهوائه ومقاصده وعواطفه.

إلى المعاني الكثيرة المتشعبة والمتنوعة، التي تحفل بها قواميس اللغة. هناك عدد لا متناهٍ من المعاني للكلمة الواحدة، لا يقلّ عن عدد استخداماتها وعدد قائليها.

لعل لغتنا العربية من أوائل اللغات، إن لم تكن أولها، تعدداً في المعاني، لما تتمتع به من ضروب الرمز والغمز والتلويح والتأشير والتضمين والتأويل.

قالت العرب قديماً: المعنى بقلب الشاعر، حين كان الشاعر، كما هو معلوم، لسان حال القبيلة أو مذياعها ومحطتها الفضائية، بلغة عصرنا.

بكلمات أخرى، لأن الشاعر كان هو المتكلم المفوَّض، والممثل فوق العادة، لقبيلته، في السلم والحرب.

أما اليوم، وقد بات بإمكان أيٍّ كان، أن يقول ما يريد، ويسمعه ويقرؤه من يريد في عالمنا، من أقصاه إلى أقصاه، فقد صار حرياً بنا، تعديل ذلك المثل، ليصبح: المعنى في قلب القائل.

يبقى القول، أن حضرتني هناك أثناء تجوالي في حدائق المعنى، التي لا مجال للإحاطة بها: أشجاراً، أنواعاً، أزهاراً، ألواناً، وعطراً، أملوحتان شعبيتان، لا ضير من ذكرهما:

أولاهما:كانت جانيت معروفة بجمالها وقوة شكيمتها، وكان فواز مشهوراً بجرأته وكثرة مغامراته. وبما أن المذكورة لها علاقاتها العاطفية التي لا تخفيها، فقد خمَّن فواز، مثل الكثيرين من أمثاله، أن من حقه أيضاً، أسوة بغيره، إقامة علاقته الخاصة مع جانيت. فذهب ذات مساء مقبلٍ وحظٍّ مدبرٍ إليها.

سألته جانيت وهي النبيهة، بُعيد دخوله، عمَّا يرمي إليه من وراء زيارته المفاجئة، ففضّل الرجل، احتفاظاً بخط الرجعة، إيصال هدفه إلى سائلته عن طريق التضمين والتلويح، أجابها:

– بدّي..

فكررت جانيت سؤالها:

– شو بدَّك؟

فكرر فواز جوابه:

– بدّي..

ولما كانت جانيت تعرف نفسها أن لا مال تملك لتهدي أو تهب.. و لا منصب تشغل لتساعد وتملي، وأن كل رأس مالها هو جمالها وذكاؤها، ومزاجها الخاص في إدارتهما، فقد أجابته إلى ما يريد، بأن عرَّت إحدى قدميها من فردة حذائها، لتكسو بها رأس سائلها. فإذا بفردة الحذاء تنزل على فواز – حسب تعبيره – كما نزلت النار على سيدنا موسى (يعني: برداً وسلاماً).

والثانية:كان المرحوم عصام، كلما مرَّ في كلامه ما يحتمل اللبس في معناه – وما أكثر ما كان يمر – وسأله أحدهم – كما جرت العادة – أن: قُلْ (بلا معنى) يا أخي!

أجابه عصام كعادته:

وما قيمة الكلام، إذا كان بلا معنى؟

العدد 1105 - 01/5/2024