أغاني الطفولة وهارموني الإبداع في مجموعة حدثينا يا شهرزاد

يُروى عن (أبو زيد) المشهور بقوته، سيفاً وساعداً وإرادة. أنه سُئِل ذات مرة:

ما هي أحلى أيامك؟

فأجاب الهلالي: (يوم كنت عبّي التراب بطاقيتي).

مذ كانت وكنّا، ما زالت الطفولة، محطَّ أنظار الحنين، وما انفك الناس، على اشتياق لطفولتهم. يرتحلون إليها، على مراكب الخيال، كلما ضاق بهم الواقع وتصرّمت من حولهم السُبل. أمَّا ذوو المواهب وأهل الفنون، فما كانوا ليزوروا طفولتهم فرادى، كغيرهم. وإنما اتسعت مراكبهم، بتعدد طبقاتها، ورحابة شرفاتها، لكل مُرهف حسِّ، وصاحب نظر، وأخي ذائقة. بيد أن طريقة الارتحال إلى مرابع الطفولة، وأسلوب تصوير مجريات الأحداث وتلقائية التعاطي، مع تلك البقعة، البعيدة عن متناول أيدينا، القريبة من تداول عواطفنا، تختلف من فنان أو أديب لآخر. وقلّة قليلة فيهم، الذين وُفِّقوا في نقلنا إلى أجواء الطفولة، من دون أن يُشعرونا بثقالة مراكبهم وسذاجة تذاكرهم.

لو نظرنا إلى قصص عصام حسن، بمنظار (التركيب) لما خفيت علينا – بظنّي – ذواقة، مهتمين، ونقاداً. جماليتها عامة وبالإجمال، ما يعطيها، كنتيجة، صفة القصص الناجحة، ويضع كاتبها، في مصاف الكتاب البارزين. أما إذا ما نظرنا إليها، عبر عدسات (التحليل) بغية الوقوف على مأتى نجاحها، منبعاً ومجرى. فلا شك، وبمؤونة الكفاف من الاهتمام والاطلاع والتطلع، من وضع نقاط المعنى، على حروف المبنى، المُتضمَّنة، والمتجلية بـ (السينات الثلاثة):

سيولة المخزون

سيبقى الأدب والفن، بما هما بنية فوقية، مرآة، إن بشكل أو بآخر، تتلاصف فيها ملامح البنى التحتية للمجتمع. التي تشكل البيئة (طبيعة وتربية وإرثاً مادياً وروحياً) البنية الأعرق تاريخاً، الأعمق تأثيراً، فيما بينها. فها هو بطل قصة (أحصنة من حجارة وحمار) الذي (لم تكد تفارقه صاحبته، حتى أخرج جوّاله وطلبها، سمع صوتها ضاحكاً مُستغرباً:

* ماذا تريد؟

**  اشتقت لك

قالها وهو لا يزال يلمح وشاحها، نبيذي اللون، يظهر ويختفي بين المارة، كشراع تتقاذفه الأمواج. المنظر الذي أعاده سنوات إلى الوراء، إلى تلال قريته وأيام الطفولة. فإذا به يرى أمه، تخوض بين أمواج السنابل، ووشاحها يتراقص خلفها كالشراع. وتذكر أنها احتضنته حين وصف لها المشهد، وقبلته قائلة: عيني ربّ الذكي!

لكأن ماء البيئة، التي نبت فيها الكاتب، ما زال يجري في عروقه. ليغذّي سائر طينة كيانه، بخاصة منها، تربة الذاكرة. التي ما انفكت (تقردح) فيها مختلف النباتات، القديمة منها، الهجينة، والجديدة. فها هي في مفتتح المجموعة، ومُستهل أول قصة (دق، دق، دق) تنبت أوراقاً تقول:

أذكر كنا صغيرين أنا وهي، وأذكر الشجرة التي كنّا نتسلق، كانت صغيرة مثلنا، أذكر أسفلها كانت بيوتنا، بضعة حجارة مصفوفة بعناية طفل، تفصل بينها ضحكاتنا وشيطناتنا. بيوت بنيناها وقسمناها وتشاركنا فيها ساعات لهونا.

وها هو في قصة (أذكى الأذكياء) طفل يثقب (طبّات) الكازوز ويصنع منها عجلات لعلبة سردين، يجعل منها سيارة، يزهو بها أمام رفاقه. ولا يتوانى عن أن يجشّم نفسه وضع حلول لمسائل البشرية. وبيديه كل الخيوط اللازمة للحل، تلك الخيوط التي كلما تقدم في السن تقطّعت، فلم يبق معه اليوم منها، سوى خيط صغير، يكاد لا يكفي لتنظيف أسنانه!

سلامة الاستحضار

أن تنطوي طفولة عصام حسن، على مخزون وافر من الوقائع والأحداث والمصادفات، الهامة أو الفريدة، لسبب أو لسواه، فهذا ما قد يتشابه به مع أناس كُثر. أما أن يستدعي ما يشاء من ذلك المخزون، فيأتي على جناح السرعة، سالماً مُسلِّماً، وطازجاً، كما لو حدث للتوّ.. ويستحضره، فيحضر على أثير السحر، راعفاً باللون، كما لو أنه حيٌّ ينبض. فذلك ما يُعطي قصصه، تلك النكهة الخاصة، التي تمتزج فيها، طراوة الطفولة، بطلاوة الذكرى، وطزاجة المعايشة.

فليس هناك ما يوازي متعة الحدث السعيد، سوى متعة استحضاره وتذكره. فها هو جمال، رجلاً في الأربعينيات من عمره يعود في قصة( أنا وابنتي والحب)، أو يستعيد بعضاً مِنْ (نهفات) طفولته مع رفيقته سراب: (سراب كانت رفيقتي، وكنت حبّا وقلاّ إنو بس تكبر، بدّي إتزوجا. كانت هيي ترفض وتقلّي. أنا ما بدي إتزوجك، بدي إتزوج البابا!)

وها هي سراب الشابة الجامعية، وقد باعدت الأعوام وتَغيُّر السكن ومشاغل الحياة، بينها وبين رفيق طفولتها. تروي ما كان من أمرهما، ذات طفولة: (قبل ما ينتقل جمال هوي وأهلو من الحارة، كنّا لحالنا، أنا وهوي بالصف، راح قلي فجأة. بتحبّي فرجيكي حمامتي؟ وأنا ما كنت بعرف شو يعني حمامتو، قلتلو بسعادة: إي بحب فرجيني. راح نزل بنطالو وفرجاني، ما عرفت وين الحمامة بالموضوع).

سلاسة الصياغة

لشدّما يًغيض الأديبَ، حضور سعادة الفكرة بكامل أناقتها، جسداً وروحاً، معنىً ومبنىً، إلى دارة إبداعه. في حين (تزركن) سيادة اللغة، رافضة مساعدته، في تقديم ضيفته المُبجَّلة لزواره المتلقين، بما يليق بها من كلمات.

الأمر الذي، ولأسباب، بعضها يسهل فهمه واستشفافه، حتى على العامة، وبعضها يصعب على الخاصة، استنباطه بدقة. لم يلحظ القارئ أن أديبنا السوري عصام حسن، عانى منه، في أية من قصص مجموعته مثار اهتمامنا (حدثينا يا شهرزاد). بيد أن عدم معاناته، لا يُعني طبعاً، عدم تفاوت نسبة توفُّقِه، في الـ (تقديم) من فكرة لفكرة، واقعتين في قصة واحدة، أو في قصتين!

لا تثليم ولا تثريب

إلى ما حفلت به المجموعة، من ذكي الفكر.. ندي الصور.. وحميم الذكريات. وما حمله لنا خطابها من إضاءات على أريحية طبع كاتبها وغنى وتنوع ثقافته، في التراث والفن والأدب. ما ولد لدينا تطلعاً وفضولاً، لتذوق المزيد من كروم إبداعه.

بيد أن ذلك لاينفي، مرورنا ببعض حجارة نابية، تحت شجرة هنا. أو أشواك نائفة، فوق شجيرة هناك. كورود كلمة (ساقها) بدلاً من (قادها). والمقصود (الجحشة): (وبهدوء ساقها خلفه (قصة البحث عن وظيفة) ص39). أو استعماله ألفاظاً، على الرغم من مخالطتها أحاديثنا شفهياً، عواماً ومثقفين، قد تخدش لدى تثبيتها على الورق، حياء شريحة من القراء. أو تُخرمش (برستيج) شريحة ثانية: (قصة (إكسكيوزمي) ص35-36) إلا أن ما كان هذا ولا ذاك، ليثلِّم من نصوع صفحة قصص (حدثينا يا شهرزاد)، ولا ليثرِّب على معلمية القاص (عصام حسن).

صديق لم تلتقه

ختاماً، وبشعور أشبه إلى التطهر، مِنْ دنس لم يكن، أو التبرأ من ذنب لم يُرتكبْ. أجدني مدفوعاً للاعتراف، بصداقتي للقاص عصام حسن. الذي لم أره حتى اللحظة، بيد أني- بُعيد قراءتي قصصه – أراني أعرف، ما يكفي من طبعه وخصاله، ومجريات حياته لكي أدعي صداقته، وهل هناك ما يفوق الأدب والفن، تعريفاً بصاحبه؟ ثم إذا ما اتفقنا على صحة المثل القائل: رُبَّ أخٍ لك لم تلده أمك. لا أرانا نختلف على أن رُبَّ صديقٍ لك لم تصافحه يداك.

العدد 1105 - 01/5/2024