تراكم طبقات الأنا وحالات تشظّيها

لماذا يغضب بعضهم عندما نقول له بأن (الأنا) لديك غير مستقرة، وتبدو أحياناً متناقضة؟!…

أليست الأنا عبارة عن  تراكم وتفاعل أنوات من الماضي السحيق إلى الراهن المباشر؟ وهي في حالة غليان وإعادة صياغة مع كل معرفة مكتسبة أو تجربة معاشة، أو بفعل وهج وتأثير شخصية اجتماعية أو ثقافية فاعلة.

وهل من غضاضة عندما نقول بأن الأنا متشظية، وقد تصبح حالات قلقها وتوترها وتناقضاتها عصية على التوحد، فتتمظهر وكأنها منسجمة مع نفسها ومع مكوناتها التاريخية؟!

أهم خصائص الأنا وصفاتها هو تاريخية تكوّن جوهرها، وهذا الجوهر تعاد صياغته مع كل جديد. فالأنا الثابتة المستقرة التي لا تعرف التطور والتغير بفعل الزمان والمكان لا وجود لها إلا عند الأموات.

من الصعب الكشف عن تموضعات التاريخي والثقافي في تشكّل الأنا، يتاح هذا الكشف لأصحاب الخبرة ولمن امتلك الموضوعية والحياد، هؤلاء هم الذين يستطيعون وضع أنواتهم على محك التجربة والتعرية والاختبار، ويجعلون منها مادة للبحث والتقصي ومصدراً للاستنتاج.

تبقى الأنا محافظة على مكوناتها: الثابت النسبي فيها والمتغير، وقد تبرز منها جوانب خفية وعميقة مترسبة في قعرها، حسب الظروف المحيطة بها، ففي كل أنا تراكم وتفاعل ثقافات وتجارب عصور، منذ فجر الإنسانية الأول، بل وحتى ما قبل ذلك…

كثيراً ما تظهر الرواسب عندما تحتك الأنا بالواقع المحيط بها، فتبدو متخلفة، في الوقت نفسه الذي تكون فيه معاصرة، تكون ثورية بمقدار ما هي محافظة ورجعية، هذا الظهور والاختفاء أو لنقل التخفي ليس متوقفاً عليها، ولا بفعل إرادي منها، إنه يتسلل خلسة إليها، ويعرضها للانكشاف أمام الآخرين.

تنقية الأنا من الرواسب والتناقضات المكونة لها، عملية تتطلب كفاحاً دؤوباً وصبراً لا يقل أهمية عن العمليات المستدامة، لجلو الصدأ المتقادم عليها. فرز الضار عن المفيد (عملية الفلترة) بشقيها الواعي الإرادي، واللاواعي العفوي، عملية معقدة، لكن لا بد من مواجهتها باستمرار، وإلا تكلست الأنا، وتحلزنت على نفسها، وتخلفت عن مقتضيات الزمان.

لا يعيب الأنا قلقها وتوترها، ولا حتى تشظيها وانقسامها، فهذه طبيعة تكوّنها، ولا خوف من بروز التناقضات فيها، إلا أن المشكلة عندما يحصل شرخ في علاقة الأنا، بوصفها بنية تاريخية ثقافية، مع أحد مكوناتها الرئيس، فيقود الشرخ إلى خلل في العلاقة بين عناصرها، مما يدفع إلى شكل من التصدع الداخلي، يصعب رأبه، فيؤدي في كثير من الأحيان إلى قصور في إمكانات التكيف، والتلاؤم مع الواقع، فتنهدم العلاقة بين الأنا الفردية والأنا المجتمعية، التي تؤسس لهذه الأنا، بصفتها مجموعة من الأنوات المتعايشة معها، والخلل في العلاقة الناظمة يفضي إلى العزلة الاجتماعية، وقد يصبح حالة مرضية تستدعي العلاج النفسي.

ليس مدعاة للقلق تنوع الأنا واختلافاتها، فكل تنوع يشكل انسجاماً، يعتبر غنى ونقلة نوعية من الأنا الفردية إلى الأنا المجتمعية، وكل تناقض قابل للحل في الأنا يقودها إلى سموٍّ جديد، ويمكّنها من مواجهة التحديات المحدقة بها، وكل تشظٍّ وانقسام فيها يحلّ بوحدتها، يصلّبها ويمنحها طاقة خلاقة على التمرس في حل إشكاليات العلاقة بينها وبين الوسط المحيط بها (الراهن المعاش والتاريخي المشكل لها).

إعادة النظر الدائمة في مكونات الأنا وسبر أغوارها تمنحنا القدرة على كشف خفاياها، ومن ثم إصلاح ما قد يبدو فيها من عطب هنا، أو خلل هناك، وتمهد الطريق أمام جعلها أكثر توازناً وانسجاماً، كما تقوي من إمكانيات تحويل المختلف فيها إلى مؤتلف، والمتنوع إلى متميز، والتشظي هنا دليل عافية وصحة نفسية وتعايش وتصالح مع مجتمعها الذي تحمل منه في كينونتها كلَّ الأنساق والخصائص المنتجة والمحددة لها.

العدد 1104 - 24/4/2024