غزوة داعش وخيوط اللعبة الأمريكية

وصلت بهدوء وسرية رسالة بريطانيا إلى وزارة الخارجية الأمريكية، الرسالة كانت تتضمن صعوبة احتفاظ بريطانيا بهيمنتها ووصايتها على مناطق عديدة من العالم، ومواجهة المد الشيوعي فيها، وخاصة في تركيا واليونان.

كانت تلك الرسالة دعوة بريطانية صريحة للولايات المتحدة لملء الفراغ الذي سيتشكل بسبب انسحابها غير المعلن، وخوفاً من أن يشغلها الاتحاد السوفييتي السابق. كانت الرسالة – الحدث المفصلي في شباط عام ،1947 وعلى ما يبدو بدأت مع تلك الرسالة (الدعوة) مرحلة جديدة من استجماع القوة والنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، لدرجة أن وزير خارجيتها يومئذ جورج مارشال وجه خطاباً خاصاً إلى الأمريكيين حفزهم لتحمل أعباء المسؤولية في حماية أمن العالم وسلامته. هذا ما أكده مايلز كوبلاند في كتابه (The Game of Nations»»لعبة الأمم- بيروت 1970 تعريب: مروان خير). كما أسهب بأن السياسة الأمريكية الجديدة اعتمدت مبدأ ترومان، إضافة إلى مشروع مارشال. جوهر تلك السياسة كان هدفه الهيمنة والتغلغل في مناطق واسعة من الشرق الأوسط، بمنهجية سلمية، سميّت في الوثائق الدبلوماسية السرية: (التخطيط السياسي للصراع على مناطق النفوذ، في العالم، عن طريق الحرب الباردة).

 ما هو مثير للانتباه بعد مرور أكثر من ستين سنة على الانطلاقة الدبلوماسية الأمريكية السرية، أن تلك الخطة قد بدأت من سورية: (كان المفروض أن يكون العراق أول أهدافنا، فحكومته بوليسية مكروهة، إلا أن الفريق المكلف بالتنفيذ في العراق لم يستطع مباشرة ذلك دون علم البريطانيين وموافقتهم.. كما أسقطنا من حسابنا التدخل في شؤون لبنان والأردن ومصر لاعتبارات شتى، وبحساب البواقي فلم يبق أمامنا إلا سورية) ص66.

استهدفت سورية كمفتاح لتغيير الشرق الأوسط.. وبناء عليه  قررت الولايات المتحدة تغيير الحكم المدني فيها برئاسة شكري القوتلي، وأعدّت ضابطاً كردياً طموحاً ومغامراً هو حسني الزعيم ليقوم بأول انقلاب في سورية، وربما في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. سعت الولايات المتحدة لاتخاذ سورية المساحة الأولى لرقعة اللعب الأممية: (كان انقلاب حسني الزعيم في 30 آذار 1949 من إعدادنا وتخطيطنا) – ص 73.

شكل انقلاب الجنرال الزعيم عملياً الخطوة السياسية الأمريكية الأولى في المنطقة، وتم تقديمه ليكون لاعب الولايات المتحدة المعتمد. إلا أن حسني الزعيم فشل في حكم سورية وتمرد على طاقم الدبلوماسية السرية، ولم يلتزم بتطبيق السياسة الأمريكية بحذافيرها. فجرى البحث عن رجل جديد لمتابعة المهمة. نفذ مركز اللعبة الأممية في وزارة الخارجية الأمريكية، مخططها المستند على قاعدة: (إذا لم تربح اللعبة يجب تغيير اللاعبين). فدعمت انقلاباً عسكرياً في مصر، أطاح الملك فاروق، واستلم تنظيم الضباط الأحرار الحكم، تحت عنوان (ثورة يوليو 1952). كان اللاعب الأمريكي الجديد ضابطاً طموحاً من بيئة فقيرة هو جمال عبدالناصر. دعمت الولايات المتحدة ناصر في الخفاء، حتى أصبح قائداً للعالم العربي، وأحد أبرز زعماء العالم، ومؤسسي دول عدم الانحياز.

تصاعدت الفعالية السياسية الأمريكية في الشرق الأوسط بعد عام 1947 لتعويض التراجع في السياسة الكولونيالية التقليدية البريطانية، ولوقف المد الشيوعي، ولتأمين المصالح النفطية الأمريكية، إضافة إلى توفير بيئة مناسبة لولادة دولة إسرائيل واستمراريتها، عن طريق إنشاء نظم حكم جديدة، تخدم هذه الأهداف والمخططات عملياً، وتعادي الولايات المتحدة شعاراتياً. وكانت قاعدة اللعبة الأمريكية تختزل في عبارة: (الولايات المتحدة تجيد صنع أعدائها).

اعتمدت الإدارات الأمريكية لاحقاً على ما أسست له تلك المجموعة الدبلوماسية -الاستخباراتية في أعوام (1947-1958)، ولم تتحرر من أسر مخططاتها لاحقاً. إن قراءة بداية الدور الأمريكي في الشرق الأوسط واستذكاره، ومعرفة بيئة إنشاء ما يسمى بمركز اللعب العالمي، وكذلك مؤسسةCIA) ) لاحقاً يبدو ضرورياً، لأن السياسات التي اعتمدت تثير تساؤلات حول جذور تاريخ الشرق الأوسط السياسي الحديث، وثقلCIA) ) في الانقلابات والثورات، وحتى تشكل بعض الدول العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. إن المحلل والمتابع يحتاج إلى مزيد من المعلومات والحقائق حول تلك الخطط والنشاطات التي عرفت في وزارة الخارجية الأمريكية: بـ(دبلوماسية ماوراء الكواليس).

إن القراءة الراهنة للأحداث السياسية توحي بتكرارها بصيغ متحاكية في كل من سورية ومصر. فبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الانتفاضات العربية، وتتبع الموقف الأمريكي، يتبين حرص الولايات المتحدة منذ الأيام الأولى على عدم التدخل الظاهري والتروي، خاصة من قبل وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون. إلا أن نشاطات السفير الأمريكي في دمشق روبرت فورد – والتي لامجال لحصرها هنا – كانت تدل على أن الولايات المتحدة ترغب في متابعة لعبتها السياسية في سورية، بل أن تجدد أسس اللعبة برمتها. جدير ذكره أن كوبلاند  كان قد أشار عام 1969 إلى أن النجاح الأمريكي في سورية يحتاج إلى رجل قوي ومتعطش للسلطة، تساعده نخبة حاكمة، لكي تستقر أوضاع البلد. وهذا ما تحقق عام 1970. السفير روبرت فورد فشل في دبلوماسيته، التي لم تكن تماماً تجري وراء الكواليس، فاستقال. وعلى الرغم من ذلك مازالت الإدارة الأمريكية تحتفظ بخيوط اللعبة، وإن لم تقرر بعد بقيادة أوباما – حتى اجتماعه الأخير مع وفد ائتلاف قوى المعارضة السورية – كيفية استعادة فرصتها الضائعة، أو أي لعبة ستشارك فيها. لكن ماهو مؤكد أن الولايات المتحدة عند انطلاقتها الأولى إلى فضاء السياسة العالمية قد بدأت من سورية، واختارت طريق الانقلابات العسكرية  لتنفيذ مخططاتها، وإن لم توفق فيها.

ثمة تساؤل يفرض نفسه اليوم في سياق استذكار هذه الأحداث التاريخية، فيما إذا أرسلت وزارة الخارجية الأمريكية أيضاً رسالة سرية إلى روسيا تفصح عن رغبة الولايات المتحدة في الانسحاب من المنطقة، أو الشرق الأدنى على أقل تقدير، تدعو فيها روسيا -كدعوة بريطانيا لها قبل أكثر من ستين سنة- لملء الفراغ الاستراتيجي الذي سيتشكل بسبب انسحابها؟! والذي سيملأ حكماً من قبل قوى محلية أو منظمات متطرفة. ربما تم فعلاً توجيه مايشبه الرسالة، أو الدعوة، وإلا لماذا كل هذا التخبط الأمريكي في سياسات المنطقة، وهذه الخسارة الواضحة والمتكررة في ساحة لعبتها المفضلة (سورية). إلا إذا تنبهنا إلى حقيقة أن الساسة الأمريكان يفضلون دائماً أن تستمر اللعبة السياسية وتطول، وإن خسروا في جولاتها المتكررة، لأنهم مولعون بمتعة الممارسة ذاتها، كما أنهم عن طريق إطالة اللعبة فقط يعيدون اكتشاف مصالحهم، وما ينبغي أن يفعلوه بالضبط في أشواط  اللعبة المتناوبة بين سورية ومصر.

أخيراً إن غزوة داعش لمدينة الموصل في 10 حزيران 2014 وحربها على إقليم كردستان في 3 آب، وتزايد الدعم الدولي لكردستان في الدفاع عن مواطنيها، واشتداد حدة  المعارك، قد تجبر داعش على الانسحاب من سورية. وإذا أخذنا تصريحات الرئيس أوباما بافتراضه أن مدة الهجمات الجوية على مسلحي داعش قد تطول، فالمشهد برمته بات يثير الكثير من التساؤلات، فهل شارفت اللعبة الأمريكية في سورية على الانتهاء؟ أم أن خيوط اللعبة قد تشابكت أكثر من المتوقع بعد صعود داعش؟ المؤكد أن الإدارة الأمريكية أبدت مؤخراً فعالية وحزماً، لدرجة أوحت بأنها الوحيدة التي مازلت تمسك بخيوط اللعبة السياسية التي شملت العراق بقوة أكثر من أي وقت آخر.

العدد 1107 - 22/5/2024