«عذاب ساكو وفانزيتي» لبن شاهن: فن مشاكس لدحض الحلم الأمريكي

من المؤكد أن الفنانين الأمريكيين لم ينتظروا ثلاثينيات القرن العشرين والانهيار الاقتصادي الكبير الذي حدث عند بداياتها مخلفاً فقراً واحتجاجات اجتماعية ورعباً كبيراً، كي يدركوا أن الحلم الأمريكي كان حلماً كاذباً، وأنه كان من شأنه أن يتحول في أية لحظة إلى كابوس. فمنذ بداية القرن العشرين أدرك الفنانون والكتاب الأكثر وعياً أن ثمة ما ليس على ما يرام في ملكوت ذلك الحلم. ولاحقاً إذ حدث الانهيار، تحوّل رصد المساوئ إلى تحليل لها، وارتفع صراخ الفن غضباً واحتجاجاً، وصار ما كان وقفاً على الفئة الأكثر وعياً من ضروب الاحتجاج الاجتماعي، سمة عامة، فاستشرى المسرح التحريضي وقام الفن بدوره الناقد، وكثرت التجمعات والتيارات، إلى درجة يمكن أن يقال معها إن كل ضروب فنون الواقعية والواقعية الاشتراكية الستالينية التي هيمنت على العقل السوفييتي في تلك المرحلة، راحت تبدو أشبه بلعبة اطفال مقارنة بخط التسييس الاجتماعي والاحتجاج الأمريكي، وعلى الأقل بفعل الحرية والتجريبية، المطلقة في بعض الأحيان، التي راحت تتسم بها تلك الفنون فارضة حضورها بقوتها الخاصة لا بقوة الأيديولوجيا التي تعبّر عنها.

ففي ذلك الحين، أي بعد الانهيار الاقتصادي الكبير، لم يكتف الفنانون والرسامون بأن يلتفتوا إلى الواقع الذي آل إليه الحلم الأمريكي، بل راحوا يتسقطون كذلك أخبار الماضي… مركّزين منه في شكل خاص على ما كان يعتبر في ذلك الحين ماضياً قريباً. ولم يكن ثمة، في ذلك الحين، في طول الولايات المتحدة الأمريكية وعرضها، ما هو أقرب إلى الأذهان وأشد إيلاماً لشرائح عديدة من الناس، ولا سيما لطبقة المثقفين بشكل خاص، من إعدام المهاجرَيْن الإيطاليين ساكو وفانزيتي. فإعدام هذين، ظلماً وافتراء – في رأي كثر من الأمريكيين – كان حدث في عام 1927. ومن حوله كانت تجابهت عقليتان ونظرتان إلى أمريكا وإلى الأمور بصورة عامة، ما جعل من ذلك الحدث الكبير معادلاً أمريكياً لقضية درايفوس الفرنسية، التي كانت شغلت فرنسا كلها قبل ذلك بنحو ثلث قرن. ومن هنا إذا كان نوع معيّن من الفن الأمريكي قد وجد لزاماً عليه أن يبحث عن مواضيع احتجاجية له، في ثنايا التاريخ الأمريكي الراهن… فإن قضية ساكو وفانزيتي كانت هناك في الانتظار. ولقد كان الرسام بن شاهن، واحداً من كبار الفنانين الأمريكيين الذين عبّروا في فنهم عن ذلك الحدث، ضمن منطق احتجاجي سياسي واضح. ولم يكن مصادفة أن بن شاهن نفسه رسم أيضاً لوحة جدارية كبيرة كرسها لقضية درايفوس الفرنسية.

وقبل الحديث عن لوحة بن شاهن، قد يكون من المفيد أن نذكر أن نيقولا ساكو (1891- 1927) وبرتولومو فانزيتي (1888- 1927) هما عاملان من أصول إيطالية كانا هاجرا باكراً إلى الولايات المتحدة، فانخرط اولهما في التيارات الاشتراكية ثم الفوضوية، بعد أن كان جمهوري النزعة أول الأمر، في ما عانق الثاني الأفكار اليسارية باكراً… ولقد وُجّه الإتهام إلى الاثنين في عام 1920 بقتل موظفين في شركة كانا يعملان فيها. واستمرت محاكمتهما طوال ما يقرب من ثماني سنوات، تراكمت خلالها شهادات لصالحهما تبرئهما من التهمة. لكن السلطات كانت في حاجة إلى كبش محرقة، والى توجيه الاتهام إلى أناس معروفين بنزعتهم الاشتراكية لزرع الخوف من (الخطر الأحمر) في البلاد. وهكذا، على رغم الاحتجاجات المحلية والعالمية، وعلى رغم أن كل القرائن لم تثبت أبداً ارتكاب ساكو وفانزيتي الجريمة، تم إعدامهما يوم 22 آب (أغسطس) ،1927 وسط تظاهرات احتجاج عمت العالم كله. ولقد رأى رهط كبير من الفنانين والمفكرين والسياسيين الأمريكيين في ذلك الإعدام عاراً ما بعده عار طاول العقلية الأمريكية وبالتالي الحلم الأمريكي كله. وكان بن شاهن، من هؤلاء، إذ كرس للحادث في العامين 1931- 1932 واحدة من اقوى اللوحات التي أنتجها الفن الأمريكي في ذلك الحين، وأطلق عليها اسم (عذابات ساكو وفانزيتي).

قسم بن شاهن لوحته إلى ثلاثة أقسام، ليجعلها أشبه بسجل تاريخي لما حدث. في القسم الأول الذي يشغل الثلث الأيمن من اللوحة صور الرسام عمالاً ومناضلين يتظاهرون محتجين على حكم الإعدام، بل على المحاكمة من أساسها، وقد حرص على أن تكون للعمال المحتجين سمات المتهمين أنفسهما. وفي القسم الثاني الذي يتوسط اللوحة صوّر بن شاهن، حاكم ولاية ماساشوستس آلفن فولر، على شكل قزم ضئيل، يشير بيده معلناً رفضه تأجيل تنفيذ حكم الإعدام، وإلى جانبه المتهمان ساكو وفانزيتي يقفان كعملاقين بالمقارنة معه، والكبرياء يملأ وجهيهما. أما في القسم الثالث والأخير من اللوحة، وهو الذي يشغل جانبها الأيسر، فنجدنا وقد تم تنفيذ الحكم، أمام تابوتين يضمان رفات العاملَيْن، وهما محاطان بأعضاء ما سمي يومذاك (لجنة الأعيان)، المؤلفة من قاضٍ ورئيس جامعة هارفارد، ورئيس معهد ماساشوستس للتكنولوجيا. إنهم هنا يقفون من دون حراك. ولكن الندم يبدو واضحاً فوق وجوههم، إذ إنهم كانوا قبل ذلك قد كلفوا من قبل السلطات بالتحقق من عدالة المحاكمة وصواب الحكم بالإعدام… فاستنتجوا بأن (كل شيء يجري على ما يرام) موافقين في طريقهم على حكم الإعدام بالكرسي الكهربائي. والحال أن هؤلاء الثلاثة هم في نظر بن شاهن، كما في نظر كل الذين تابعوا القضية، المسؤولون الحقيقيون، إذ كان في إمكانهم أن يقلبوا المعادلة لكنهم لم يفعلوا، ولم يتأثروا لا بالضغوطات العالمية ولا بنداء الضمير، مع علمهم أن المتهمين إنما هما ضحيتان لفزع أمريكي عام لا أكثر. أما العنصر الأخير في هذا القسم من اللوحة فهو القاضي وبستر تاير، الذي ظل طوال السنوات الفاصلة بين حدوث الجريمة ولحظة الإعدام مصراً على أنه لن يقبل أبداً بإعادة المحاكمة مهما كانت الظروف.

بالنسبة إلى العقل الأمريكي الحر والتقدمي، كان من الواضح أن في الأمر كله ظلماً كبيراً، إذ حتى لو كان ساكو وفانزيتي قاتلين، فإنه لم يكن ثمة ما يبرر ذلك الحكم الأقصى الذي صدر عليهما. وفي الحقيقة، وأيضاً بالنسبة إلى ذلك العقل الأمريكي الحر، كان الأمر في النهاية موقفاً سياسياً واضحاً سرعان ما تجاوز حكاية إعدام الرجلين ليغوص في وضعية أمريكا نفسها، في تساؤل يعيد النظر في عدد كبير من المسلمات.

وبن شاهن قال بنفسه، تعقيباً على تحقيقه لهذه اللوحة التي أضحت في ذلك الحين، واحدة من أشهر أعمال الفن الاحتجاجي الأمريكي: (لقد وجدت ذات يوم أن عليّ أن أفكر حقاً بقضية ساكو وفانزيتي. وأنا، بمقدار ما تعود بي الذاكرة إلى الوراء، أذكر أنني كنت دائماً أحب أن أكون محظوظاً بما يكفي لكي أعيش أزماناً كبيرة في حياتي… أزماناً تحدث فيها أمور ضخمة… وهكذا حين حلّت قضية ساكو وفانزيتي أدركت فجأة أن ثمة هنا موضوعاً يمكن لي أن أرسمه). والحال أن لوحة (عذاب ساكو وفانزيتي) كانت واحدة من أولى اللوحات السياسية الاحتجاجية التي رسمها بن شاهن… بل إنه عاود رسمها مرات ومرات، حتى عام ،1967 قبل وفاته بعامين.

وقبل رسم هذه اللوحة، وبضع لوحات أخرى من الطينة نفسها، من بينها لوحة درايفوس التي أشرنا اليها، كان بن شاهن المولود في ليتوانيا عام 1898 والمهاجر إلى أمريكا حين كان في الثامنة، كان متخصصاً في طباعة الرسوم… ولم يبرز رساماً إلا عند بداية سنوات الثلاثين، بالتواكب مع اهتماماته السياسية والاجتماعية. ولقد قاده هذا إلى التعاون مع الرسام المكسيكي دييغو ريفيرا، حين أقام هذا في الولايات المتحدة محققاً فيها عدداً من الجداريات. بعد ذلك كُلّف بن شاهن وحده بتحقيق جداريات عدة، صار اسمه من بعدها معروفاً على نطاق واسع. لكن اهتمامه لم يقتصر على الرسم بل اهتم بالكتابة النقدية. وخلال فترة من الزمن تولى كذلك تدريس الشعر في جامعة هارفرد. وهو رحل عن عالمنا في عام 1969 عن عمر يتجاوز السبعين بصفته واحداً من كبار الفنانين الأمريكيين في القرن العشرين.

 

«الحياة»

العدد 1105 - 01/5/2024