قراءة في مجموعته الشعرية «كثافات» دو بريتو والإبحار في اللغة والمعنى والتجربة

ما الشعر إن لم يكن بحثاً دائباً عن المعنى وإبحاراً في عوالم الكلمات والبشر؟

وما القصيدة إن لم تكن حضوراً متفرداً وبناءً متجدداً للعمارة الشعرية؟

وكيف تغني المشاهد العادية وحبات الرمل والإيماءات والتناغمات الإنسانية تجربة الشاعر، وتفسح في المجال له كي يتجاوز سواه، ويخرج من عباءاتهم؟

هذه مقاربة لتجربة الشاعر البرتغالي كازيميرو دوبريتو، الذي رأى الشعر رحلة بحث دائم عن المعنى، واكتشافاً للحظات الجمال الخفية، وبناء متجدداً للقصيدة.

ولد دوبيريتو في لوليه بمنطقة الألغارف جنوب البرتغال عام 1938 وهي منطقة سكنها البربر لقرون، وظل الشاعر يفخر بأنه أندلسي وعربي يقطن جنوب أوربا، تأثر بحكايات جده وقصص أمه، وبدأ كتابة القصائد وهو في السابعة عشرة، ونشر أول مجموعة شعرية وهو في التاسعة عشرة، فلفتت اهتمام النقاد إلى تجربة جديدة ذات نكهة مميزة، ولوحظ فيها حضور بيسوا الشاعر البرتغالي الأشهر.

أتقن دو بريتو الإنكليزية، وزار لندن، وتعرف من خلال إقامته ودراسته فيها على شعر الهايكو الياباني، وتأثر بهذا اللون الشعري الشرقي وإيقاعاته السريعة العذبة.

واجه دوبريتو دكتاتورية سالازار، ووقف إلى جانب فقراء بلاده، ورأى أن وجوده في صفوف الحزب ا لشيوعي البرتغالي في مثل هذه الظروف القاسية خيار واقعي، وعانى وطأة النفي مثل كثيرين من مبدعي بلاده، ولم يهن، ولم يفقد الأمل بقوة الكلمات والقصائد والأغنيات وقدرتها على إزاحة العتمة، واستعادة اللحظات الحميمة.

مجموعته الشعرية (كثافات) ترجمها إلى العربية الشاعر اللبناني والمترجم إسكندر حبش، وصدرت عن دار التكوين بدمشق عام 2014 وهي قصيدة طويلة مقسمة إلى تسعة وستين مقطعاً مرقماً، وهي أشبه بالرباعيات الشرقية أو بمقطوعات الهايكو.

موضوعات دو بريتو تدور حول أسرار الحياة وتحولات الأشياء ومتع الحب غير المرئية، وحركة الورود والأغصان وحبات الرمل والأمواج والمشاعر، فالحب لديه يُرى ويسمع، ويقول:

انتبهوا للحب/ حيوان صغير/ لا مبالٍ، قماشة تتناسل/ شيئاً فشيئاً، أبقى/ صامتاً/ لأتمكن من سماعه/ وهو يتفتق. ص 15.

والشاعر مندغم بالجهات التي يمتد فيها، ويحس أن الدماء التي تجري في عروقه هي دماء الأندلسيين والبربر والعرب، يقول: أحب الجنوب/ والشرق، والرغبة/ والقسوة، الغزارة/ والعوز القبة/ وكل شيء. ص 16.

ويلتقط الشاعر الإيقاع المتناعم بين الطبيعة والبشر، وبين الأرض والمتجذرين فيها، يقول: من الندى أعرف أنها تولد/ دمعة أرض/ لترطب أصابعي. ص 21.

فتحولات قطرة الندى تدهش، حين تنتقل من أحزان أرض كي تلتهم أصابع الشاعر ورؤاه وبوحه.

ويكشف الشاعر في المقطعين 19ـ20 تحولين من تحولات الحب الغريبة، حين يهز ويمتع، وحين يحتضن ويغير، يقول:

بما أنني لن أستطيع تغيير العالم، دعيني أهز رمل خفيك/ يكفي أن أبتعد قليلاً/ عنك/ كي أسقط من جديد/ في الفخ المشؤوم، في الانحلال/ الجاف، الورقة التي ترتجف/ من ابتسامتك/ تحوي العالم! ص 24. والشعر والكتابة لدى دوبيرتو عيش مع البشر، ومشاهدة للبحر، وغناء، إنها طقوسه اليومية المحفزة للإبداع، يقول:

أكتب الآن، أشعر/ بالتعب. من الأفضل/ أن أستمر في مشاهدة الناس/ في الشارع/ أو مشاهدة البحر/ مشاهدة من يحيا/ وذلك فقط بعد/ الغناء.ص 26.

ومن تحولات الحب لدى دوبريتو وصوره المحببة هذا التشوش لكيان البشر والأشياء، وهذه المفارقة بين العمى ومعرفة الهدف، يقول:

دخلتِ في بيت جسدي/ تشوشت الغرف كلها/ ولم أعد أعرف من أنا، أين أنا./ الحب يعرف/ الحب عصفور أعمى/ لا يتوه قط في طيرانه. ص 27.

ومتعة الحياة عند الشاعر هي أن تعاش، ومتعة الحب أن يشرب المحبان كأسه، يقول: لن أتعلم مطلقاً/ تطهير الحياة/ هذا مافكرت به منذ قليل/ عندما كنت أشرب في كأس فخاري/ القليل من الماء/ أنا الذي أستطيع شربه/ في صدفة يديك. ص 33. وفلسفة الشاعر في الحب أنه ارتحال وذوبان وخلود، يقول:

الحب شعلة حب مرتحل/ لا يؤمن بالموت، فقط/ بذوبان العشاق السحري. ص 38.

والحياة كما يراها دو بريتو تجدد وامتلاء ومواجهة دائمة لسخريات محدقة، يقول: عما قريب، المزهرية التي فرغت/ ستمتلئ مجدداً /ستكون كريمة/ ومستعدة لسخرية كل شيء. ص 42.

وهو يرى أن اللغة قاتمة، لكن الشاعر يستطيع أن يبعث فيها حياة ونغماً، يقول: لا أعرف إن كانت الشجرة منحوتة/ أ نبعاً حياً، /أعرف أننا نتحدث/ لغة قاتمة – قريبة من الموسيقا. ص43.

والامتلاء داخل الشاعر، والأنغام التي تتردد في حناياه هما انعكاس لامتلاء الطبيعة حوله، ولإيقاعاتها وصخبها، يقول:

البارحة تنزهت/ في حقول المطر، اليوم/ تمطر في داخلي! ص47.

ويكثر دوبريتو من المقابلات والصور في مقطوعاته الغنائية، فهو مثل عبارات مصقولة حيناً، ومثل صندوق نحلات ضعيفة عمياء تارة، وعملية الكتابة والمحو لديه علامة التجدد والتجاوز، يقول:

لا تجتاحوني/فأنا لم أعد أرقص/ أفضل ما أقوم به/ هو حين أرتاح/لاتستأجروني/ فأنا متعب/ أفضل ما أكتبه/ حين أمحو!ص50.

تأثر دوبريتو بالتراث الشفهي، وبغنائية شعراء التروبادور، وغرف من معين الحياة الواقعية وحكاياتها، ورأى أن براعة الشاعر تكمن في المرور من أشياء عادية إلى أشياء جدية، وإقامة علاقة وشيجة بين العالم والكلمات، وتأثر بالشاعر الفرنسي بول فاليري وبمواطنه بيسوا (ألفارو دوكامبوش)، ورأى مثلهما أن الشعر هو المعنى والتجربة والموسيقا.

اضطر (بريتو إلى أن يسلك طريقاً مختلفاً في الشعر كي يعبر بطريقة واقعية ومباشرة، دون سقوط في العاطفية، ودون مهادنة مع الديكتاتورية، واختار المنفى لأنه رفض أن يشترك في حرب حكومة بلاده الاستعمارية في أنغولا.

بحث دوبريتو عن التناسق في العالم، والكتابة عنده معادل ومساهمة في تحقيق هذا التناسق، ورؤيته المختلفة للشعر نقلته من الرؤية الأفقية للعالم إلى الرؤية العمودية. وتجلى ذلك في ثنائية (السجادة/ البئر)، فالكتابة نقش وغوص إلى القاع. وبعد أربعين مجموعة شعرية من بنيها: أنطولوجيا ـ كتاب السقوط، اكتشف دو بريتو أن كل قصيدة يكتبها هي سقوط، وأنها ستكون الأخيرة، لكنه يعود إلى الغوص من جديد.

العدد 1105 - 01/5/2024