رسماً وكلمة ومشهداً الفنان ممدوح حمادة ساخراً

لفت انتباهي، صباحاً، لدى جولاني في حديقة دارنا (مملكتي الصُغرى) التي أورثني والدي ملكيتها؛ بُرعمٌ جديد، تفتق عنه كعب دالية العنب، التي هرمت ووهنت وتماشعتها الأمراض.

ولمّا لم أرد اجتثاثها، فقد عالجتها مُبقياً على جزء منها فوق التراب، ظننتُ أنه ييبس مع الأيام وينتهي. غير أن الجزء راح يبرعم، وكلما ظهر برعم فيه فَصَلْتُه، ليظهر بعده برعم آخر في مكان آخر.

لدى خروجي من الدار، في مشواري اليومي المعتاد، إلى البريَّة (مملكتي الكبريس) التي وهبني الله جمالها، استوقفني (أبو أديب)، بطلعته الأنيسة وكلماته البسيطة، وسَلَّة كَرْمِهِ المفتوحة أبداً على الأيادي.

أثناء سيراني متفقداً أحوال المملكة، مُتنعماً بمواقفةِ لوزةٍ، يضحك زهرها هنا.. وملاطفة زيتونةٍ يرقص ظلّها هنا.. ومغازلة ليمونةٍ تُعطرُ عريشة ناطور هناك. باغتتني قاطعة عليّ الدرب، قافلةُ نملٍ محمّلةٍ بحبات الحنطة. فتسمرتُ مكاني، ضاغطاً ما استطعت، مكابح محرّكي ثنائي الدفع، مُفسحاً لها مجال المرور.

ملامح مُبدِع

إلى المتعة والعبرة، اللتين منحتني إياهما المناظر السابقة، التي مررت بها هذا الصباح. فقد أذكرتني كلٌّ منها، بملمحٍ من ملامح المبدع المتنوع الدكتور ممدوح حمادة.

كثيرون هم، من يعرفون ممدوحاً، كاتب سيناريو.. أقلّ منهم، من يعرفونه رسام كاريكاتير.. وأقل من هؤلاء وأولئك، من يعرفونه قاصّاً. أمّا الأقلّ، فهم من يعرفونه، عن كثب، إنساناً.

ولئن شاء لي القدر، أن أكون من المجموعة الأخيرة. لأني قد عرفت ممدوحاً، منذ ثمانينيات القرن الماضي، إذ عملنا في إحدى المؤسسات الطوعية، في دمشق، حيث تصادقنا، ثم استمرت علاقتنا أثناء دراستنا الجامعية، في الاتحاد السوفييتي، سابقاً، وتمتنت أواصرها بعد عودتنا إلى الوطن. لذا لن أراني كمن يقدّم شهادة حسن صفات، بصديق، لم يطلبها منه أحد. إذا ما أبديت رأيي بالرجل، وبنجاحاته البادية، في غير عملٍ ومجال، لاسيما أنه حسب ما أرى، لم ينل بعد، رغم شهرته محلياً وعربياً، ما يستحقه من الاهتمام، متوخيّاً ما أمكن التحرر من الرغبات، والانحياز إلى الحقيقة.

بداية المشوار

لقد أحب ممدوح شغله، وعمل بنشاط ودأب نمليّين، وفي ظروف مختلفة، تفتقر أحياناً، إلى مكان يبيتُ فيه، ولقمة تسدّ رَمَقَهُ. إلاّ أن ذلك كله، لم يكن ليفتّ من عضد إرادته، أو يقوى على ليّ عنق سخائه وسجاياه، ولا على تجفيف منابع النكتة في مجرى حديثه وتضاريس حياته.

إلى بداية مشواره الفني، بكتابة القصة، بصرف النظر عن عدم نشره ما يكتب (له أكثر من مجموعة قصصية، أصدرها فيما بعد، منها قصة (المحطة الأخيرة) عام 1999 مسرحية للأطفال بعنوان (صانع الفراء) ومجموعة قصص (أم الطنافس) الصادرة حديثاً عن دار أبعاد في دمشق). ثم اجتهاده واستمراره في مزاولة هوايته المحببة (الكاريكاتير)، أثناء دراسته له في جامعة (مينسك)، وبعد إيابه إلى الوطن. فقد كتب ممدوح حمادة المقالة التي كان ينشرها في جريدة (السياسة) الكويتية، التي كانت تُوزَّع في دمشق آنئذ، أواخر القرن الماضي. والشعر، الذي اعتاد أن يحتفظ به لنفسه. من أشعاره قصيدة تحت عنوان (من الفصول):

من الفصول

ينقص الفصل الخامس.

من السنة

ينقص الشهر الثالث عشر.

من الشهر

ينقص اليوم الثاني والثلاثون،

ومن اليوم

تنقص الساعة الخامسة والعشرون،

ومن الساعة والدقيقة

تنقص المساحة الواحدة والستون.

هكذا كما ترين

من الزمن

ينقص الوقت الذي يجب أن نلتقي فيه.

أمَّا كتابته السيناريو، مؤخراً، فقد جاءت محض مصادفة، وتقبّلها كسدِّ فراغ جيب، وعلى مبدأ (اشتغل بالـمقصقص لتحصل عَ الطيّار) حسب تعبيره. وذلك بعد أن أُغلقت دونه، ودون آخرين طبعاً، صفحات الكاريكاتير في الجرائد والدوريات المحلية، أواخر القرن الماضي. وكأني بـ (ممدوح)، من حيث تنوعه، أشبه ما يكون بأصل شجرة طيب، كلما سُدَّ أو ضُيّق عليه في مكان ما، برعم في مكان آخر.

الكوميديا والكاريكاتير

الكوميديا، وبضمنها الكاريكاتير، هي البساط الأرحب، بين سواه من الفنون، الذي يتسع لخطوات التعبير وتخطّي الخطوط، ولئن كان الكاريكاتير تسمية ومصطلحاً ونقداً، قد عُرف حديثاً. فمما لا شك فيه، أن جذوره، إرهاصات وتبدياتٍ، تمتد تاريخياً إلى ما قبل ذلك بآلاف السنين، إلى تجلياته في عصر النهضة في أوروبا، فقد خالط الأدب الساخر، ضروب الإبداع منذ القديم، ولا سيما في الشعر الجاهلي، كقول أحدهم:

قومٌ إذا استنبحَ الأضيافَ كلبهمُ

صاحوا بأمهم: بولي على النارِ!

وقول آخر لأحد ذوي الأنوف النميقة:

إنْ كانَ أنفكَ هكذا

فالفيلُ عندكَ أفطسُ

إضافة إلى تضمُّنه في المقامات، (كمقامات الهمذاني والحريري وسواهما).. ناهيك بكلاسيكي التشكيل والمسرح وغيرهما، وصولاً إلى انتشاره – أي الكاريكاتير – في سائر صنوف الأدب والفن المعاصر، رسماً، صورة، كلمة، وموقفاً، لأنه كما يقول د. حمادة:

يحتوي في داخله، على تنوع كبير، وله علاقات متشعبة مثيرة للجدل، مع الكثير من الأنواع التشكيلية الأخرى.

إضافة إلى ما سبق، فقد شغل فن الكاريكاتير بمفهومه الأشمل، مكانة خاصة لدى ممدوح حمادة، وغدا المادة الخام الأساس، عضوياً وبنيوياً، في هندسة معمار مختلف أعماله، على أنواعها ومستوياتها.

جدير بالتنويه هنا، أنَّ حمادة الذي مارس فن الكاريكاتير واعتنقه، هاوياً، فيما سبق، قد درسه أكاديمياً لاحقاً في جامعة (مينسك) في (بلاروسيا). وأصدر كتابين هامين يؤرخان لهذا الفن، أسهما في رفد مكتبتنا العربية (الفقيرة إلى المصادر والمراجع في هذا المجال) هما (فن الكاريكاتير من جداران الكهوف إلى أعمدة الصحافة) و(الكاريكاتير في الصحافة الدولية).

البساطة الذكية

إنْ لم تكن الكوميديا هي الأقدر بين الفنون، على قول ما تتهيب قوله، أو تتحرج منه أخواتها، فهي من دون أدنى شك، الأكثر رشاقة ودماثة وكياسة، في طريقة طرحه وإيصاله. ما يؤدي تالياً، إلى حسن استقباله واستيعابه لدى المتلقي.

لقد التقط الدكتور حمادة، برهافة حسِّه وذكاء موهبته، وهو ابن البيئة الشعبية، ولادة ومعايشة ومعاناة (إذ تنقَّل مع أسرته بحكم وظيفة والده (دركياً)، إلى معظم مناطق الريف السوري) العنصرين الرئيسين في طباع السوري عامة والريفي خاصة (البساطة والذكاء)، وتمثلهما في سائر مسلسلاته: عيلة سبع نجوم.. بقعة ضوء.. عالمكشوف.. مرزوق على كل الجبهات.. ما في أمل.. ضيعة ضايعة.. الخربة.. وضبّوا الشناتي، المسلسل الأخير، الذي نال – حسب صحيفة الثورة السورية ومحطة شام إف إم – المركز الأول من حيث المشاهدة، وأحرز فيه بسام كوسا وأمل عرفة، لقب أفضل ممثل وممثلة لعام 2014.

والشواهد على ما وصفنا به كتابات (حمادة) من بساطة وذكاء. متوافرة وبادية، نذكر منها شرح (جميل) لـ (أبو نمر) معنى الإمبريالية في مسلسل الخربة. عندما يسأله الأخير: شو يعني الإمبريالية؟

فيجيبه جميل: الإمبريالية نظام سياسي حقير.. حقير كثير.. يعني.. كيف بدّي أشرحلك ياها. إنت عمي شو أحقر شي عندك بهالدنيا؟

أبو نمر: بو نايف

جميل: الإمبريالية أحقر من بو نايف!

كذلك يسطع نور الذكاء والبساطة، في كوميديا حمادة مضموناً وملفوظاً وصياغة، لدى عرضه لسلبيات التعليم عندنا، منهاجاً وتوجيهاً ووسائل توضيح، وصولاً إلى أسلوب الامتحان، والاعتماد في كل ما ذُكِر، على بصم المعلومة، دوغماتياً، من أجل التخلص منها، على ورقة الإجابة. ما يؤدي في نهاية المطاف، إلى تخريج جامعيين، على مستوى عالٍ، في (الشهادة) والخواء. ما يشير إليه (حمادة) في (الخربة) أيضاً.

إذ يسأل أحدهم الآخر، عن عدد خريجي الجامعات السورية سنوياً، بشكل افتراضي وتقريبي. فيجيبه المسؤول: كذا مليون تقريباً. فيقول له الأول، انطلاقاً من الأرضية الهشَّة، والخلفية المتهافتة للعملية التعليمية في البلد، وتمثلاً للمثل القائل (من يزرع زيوان لن يحصد حنطة بلدية): تخيَّل أن خمسين ألف حمار فقط، من بين (كذا مليون) خريج، الذين ذكرتهم، كانوا في موقع القرار، فماذا يحصل للبلد؟!.

تحضرني هنا، على ذكر الأرقام، معلومة قرأتها مؤخراً وذات صلة بالبنية الثقافية وقنوات إيصالها، مفادها أن واحداً من مراكز البحوث والدراسات، أجرى استبياناً سبرياً، لنسبة القراءة لدى الفرد في العالم، اشتملت نتائجه، على أن العربي يقرأ أقل من عشر دقائق في العام، في حين يقرأ الأوربي أكثر من عشرة آلاف دقيقة.

مع غيره من الأسباب، إلى تأثير التلفاز كأحد وسائل (الميديا) الهامة، إن لم يكن أهمها، ولاسيما في مجتمعاتنا العربية، الأمر الذي يُعطي البرامج والمسلسلات – خاصة الكوميديا – دوراً أولياً فاعلاً، في العملية الثقافية التربوية، ليس من باب أن الكوميديا (فناً وثقافة) هي إحدى تشكيلات البنية الفوقية في المجتمع، ووسيلة ترفيهية وحسب. بل لكونها حاجة بنيوية أساسية، من الحاجات التربوية المعنوية الروحيّة، لحاضر حياة المواطن والمجتمع، أولاً. وعاملاً تغييرياً تطويرياً فاعلاً، لمستقبلهما المرتجى، تالياً.

أنواع الكوميديا

تتنوع الكوميديا وتتفرع وتتشاكل، إلى حد يصعب معه حصرها وتأطيرها، وتخترق فيه حدود التراجيديا، مقدمة نفسها، كإحدى نتائج الأخيرة.. شقيقتها.. أو الوجه الآخر لها. (أوليس شر البلية ما يضحك؟). منها على سبيل المثال:

كوميديا الرسم (الكاريكاتير بمختلف أقسامه).

كوميديا الاسم (البشعة المسماة (حلوة) أو الجبان المسمى (فارس)).

كوميديا الشكل (كمن يرتدي بدلة رسمية، حافياً.. أو يعتمر عمامة ويلبس شروالاً، فوقه قميص أحمر نصّ كم).

كوميديا اللفظ (كالتأتأة عند المرحوم سليم حانا)

كوميديا الحركة (كأي حركة مضحكة، مكرورة، أو لمرة واحدة عند الشخصية)

كوميديا المعنى (ويُقصد به غالباً المُضمر خلف طلب/أو كلمة).

كوميديا الموقف (وأنسب مثال عليه موقف الحكومة السورية الراهنة، في إعلانها في وسائل الإعلام، وتحت عنوان عقلنة الدعم، وترشيد الاستهلاك بإيصاله إلى مستحقيه، وتجفيف منابع الفساد، وإدرار روافد خزينة للدولة، عن قيامها برفع سعر الخبز والمازوت، ما يؤدي إلى، ما لم تعلنه الحكومة طبعاً، من تنشيف ريق المستهلك، محتوت الدخل، وتجفيف دم مَنْ لا دخل له أصلاً). ولعل لأعمال الدكتور حمادة، مثار اهتمام مقاربتنا هذه، نصيباً في سائر ما مرّ ذكره – وما لم يمر – للكوميديا من أنواع.

يبقى القول إننا إذ نغبط الدكتور ممدوح حمادة، على جميع ما قدمه من أعمال ناجحة، في مجالاته كافة، ونشدّ على يديه في مثابرته – ما استطاع – على معالجة أمراض مجتمعنا فنياً، سواء الأعمال التي قدمها بمفرده، كاريكاتيراً وقصة، أو التي قدمها – كسيناريست – بالتعاون مع آخرين (منتجين، مصورين، ممثلين، مخرجين و..) وكان كمعظم المشاهدين راضياً عن نتاجه، مع كل من هشام شربتجي والليث حجو. كما نهنئه بشهادة الدكتوراه في الإخراج، التي نالها مؤخراً، هادفاً إلى إخراج أعماله بنفسه، من أجل إيصال فنه، فكرة وصياغة، إلى المشاهد، من دون حذف ولا زيادة ولا تغيير.

العدد 1105 - 01/5/2024