من صور النساء في الرواية السورية

نستطيع القول، إن مادرجت عليه البحوث، التي دارت مات تزال تدور حول (المرأة) في الرواية على تصنيف النماذج النسوية في مقولات عامة، ومقولات خاصة، إنها أفضت إلى إبراز صورة المرأة المقابلة لصورة الرجل في مقولة عامة لتشمل صورة النساء ثلاث مقولات فرعية، ومتفرعة وهي: صورة المرأة النمطية: صورة الزوجة، وصورة المرأة الضحية، و..هناك صورة المرأة الانتقالية: المرأة الانتقالية السلبية، والمرأة الانتقالية الإيجابية، و..هناك صورة المرأة الجديدة المؤكدة استقلالها الشخصي، والمصرة على نيل الحرية وممارستها..!

أصناف مفتوحة

هنا يبدو إن أصناف التصنيف مفتوحة على أفق لانهاية له، على ما يرى الناقد علي نجيب إبراهيم، ذلك إنه حتى في مجال الرواية الواحدة، توجد أنماط متفاوتة لصور النساء، و..هنا أيضاً ثمة أمثلة تؤكد هذا المنحى، منها، المثال الأول هو رواية (الياطر) (لحنا مينة – دمشق ،1975 و..فيها تُعادل صورة المرأة حالين من أحوال تطور شخصية البطل زكريا المرسنلي: حال الانحطاط الغريزي الذي لا تعدو المرأة معه أن تكون (فجوة ذات حرارة) حسب سرد الرواية، وحال التأمل الجمالي الذي يرفعها إلى فضاء اللوحة الفنية، في الحال الأولى كان يتعامل مع زوجته بعقلية الصياد والداعر والمتهتك والسكير، وفي الحال الثانية كان قد عرف لأول مرة في حياته معنى الحب الذي سيوسع نظرته إلى العالم ليدرك معنى الوطنية والحرية و..غيرها.

إذاً و..على ما يرى علي نجيب إبراهيم أيضاً، في وسعنا أن نتحدث عن صورتين للمرأة: صورة ثابتة مشدودة إلى التقاليد، وصورة رمزية تتخطى ثبات الصورة الأولى وتغيرها، كما يمكن تسويغ إلحاق صورة أم حسن بطل (الشراع والعاصفة) بصورة زوج (زكريا) بطل الياطر، وإلى صورة (ماريا) الحبيبة الرومانية وبصورة الراعية التركية حبيبة زكريا، غير أن المرأة في الرواية الثانية. تكاد تكون هامشية وعديمة الأثر في حركة الأحداث.

المثال الثاني يمكن رؤيته من رواية (قلوب على الأسلاك) لبعد السلام العجيلي، الرواية التي يشي عنوانها بروابط عاطفية ما كانت ترجمتها امتداداً لتطلعات البطل (طارق عمران) على الصعيدين الفني والإداري. هكذا تنوعت علاقاته الغرامية تبعاً لتنوع النماذج النسائية ومواقفها من إقامة (تلفريك) يصل قمة جبل قاسيون بساحة الأمويين: فثمة نهاد البررجوازية، وماجدة المراهقة، وهدى السكريترة الغامضة، وصفية المثقفة ذات الميول اليسارية، إلا إن هذه النماذج سرعان ما انكفأت أمام انهيار مشروع التلفريك، الذي نجم عن انهيار الوحدة بين سورية ومصر، أي أن العجيلي وظف صورة المرأة وسيلة من وسائل الأمانة عن هذه الحقيقة التي تخفي وراءها تفاصيل حياة الطبقة الارستقراطية في دمشق عشية الانفصال..!

أما المثال الثالث، فمستقى من رواية (الخيول) لأحمد يوسف داؤد: إذ تظهر المرأة الريفية عبر ثلاثة أدوار: الشخصية الميتة التي تمثلها (سعدى) الساذجة السلبية غير القادرة على إدراك نوايا (حسين السعدي) ومن ثم كان لابد من موتها خشية الفضيحة، والشخصية ذات الوعي الناضج المتمثلة بأم حامد الشجاعة المدافعة عن حقوق الفلاحين، والشخصية الذرائعية المعهودة في امرأة تحفظ خط الرجعة حين تختلف مع زوجها وتخونه مع حسين، وتجبر الأخير على الزواج منها..!

 

إقناع الشخصية النسوية

و..ثمة روايات نسوية تمّ اختبارها في ضوء مفهوم الحرية الإبداعية لكل كاتبة، وهنا نلاحظ – على مايؤكد الكتور علي نجيب إبراهيم في حوار لي معه – إن مقولة إضافية ستتكوّن، ونواتها درجة إقناع الشخصية النسوية، وها هنا نجد (رشا) بطلة رواية (ليلة واحدة) لكوليت خوري، تخترق ثوابت المجتمع إذ تتعرف شاباً، وتحبه مع أنها متزوجة، ومسافرة إلى فرنسا لالتماس علاج العقم، وإذا كان منطق سلوكها متلاحماً من وراء ظروفها الصعبة، فإن (الخيانة) الزوجية قد يراها البعض ليست بالصيغة الأنسب روائياً، اللهمّ إلا حين يكون المنظور الذاتي طاغياً الطغيان ذاته الذي يطبع رواية (أيام معه) أيضاً، فالبطلة (ريم) تبحث عن فرديتها الحرة خارج إطار العلاقة الاجتماعية المعهودة، وتختار دائرة الرفض لتعيش على هواها مع حبيبها (زياد) متجاهلة خطيبها (الفريد)، وتتلخص المسألة برمتها بملاحقة العاطفة دون التفات إلى البيئة الاجتماعية الدمشقية في خمسينيات القرن الماضي، كما تقدم قمر كيلاني نمطاً مختلفاً في روايتها (بستان الكرز) حيث تهرب الفتاة البورجوازية (سونيا) مع حبيبها الفلسطيني (سامي) وتتطوع للعمل معه، ولما غاب في مهمة أدركت أنها مخطئة، فعادت إلى قريتها الجبلية للاستجمام، وبعد حين قتلتها جماعة من المسلحين، فقد كانت متناقضة أبعد حدود التناقض، وهي تعيش مع أبيها المسلم، وأمها المسيحية اللذين لا يأبهان إلا للرفاه، فقد كانت تنتابها نزعة الانتماء بأشكاله كافة، وتنطلق ألفة الأدلبي في روايتها (دمشق يابسمة الحزن) من خلفية وطنية إلى نقطة مركزية، هي قصة بطلتها (صبرية) التي تحب مجاهداً ضد الفرنسيين، ويحول أخوها المتشنج بينها وبين أحلامها في العيش معه، و..يشي به فيقتله المحتلون، وبعدئذٍ تتفجر مكبوتاتها دفعةً واحدة، وتنتحر تاركةً مذكرتها.

بدروها تعرض غادة السمان صورة المرأة في روايتها (بيروت75) فها هي (ياسمينة) المعلمة المثقفة تهرب من دمشق إلى بيروت لملاحقة أحلامها، وهناك تتعرف (نمر السكيني) الذي يغدق عليها وعلى أخيها المال، والشهوة ثم يتهمها بشرفها ويطردها متوائماً في نتيجته، مع دلالة اسمه، ومع موتها على يد أخيها الذي استيقظ ضميره فجأة، إنها صورة مؤثرة على الرغم مما قد يدور من نقاش حول قابلية التصديق لكثير من تصرفات ياسمينة..!

 

بين صورتين

هنا إذاً، يُستحسن أن نميّز أيضاً بين صورتين للمرأة: الصورة التي رسمتها أقلام كتاب ذكور، و..الصورة التي رسمتها كاتبات، فالمرأة من وجهة نظر الرجل غيرها من وجهة نظر المرأة، و..الفرق من هذا المنظور ليس فرق أفضلية، و..أنما هو فرق ينبع موضوعياً من اختلاف الزاوية التي يلتزمها كل طرف بحكم تكوينه الجنسي، فالمرأة التي يتعامل الرجل مع أنوثتها المثيرة، تختلف عن المرأة التي ترسمها امرأة اخرى يمكن أن ترى أنوثة المرأة مشكلة أو موضوع أزمة، وخصوصاً حين يتعلق الأمر باستشعار المرأة لنواقص مختلفة في جاذبيتها الأنثوية، ونجد مثل هذه المحاولات التي تجري في إطار اقتحام ما يسمونه (العالم السري) للمرأة، حيث يكثر الحديث عن شجونها الجنسية بقدر ملحوظ من الصراحة والمكاشفة الفجة في بعض الأحيان، ومثل هذه الأمور نجدها لدى غادة السمان وكوليت خوري في بعض أعمالهما مع تثبيت فروق – لسنا بصددها – بين تجربتي الكاتبتين، ومقابل ما سمّاه الناقد صلاح صالح (نوعاً من المكاشفة الجارحة (بشأن التعامل مع الشؤون الجنسية للمرأة، هناك صورة معاكسة تُبالغ في الانصراف عن الهموم الجنسية، وتقديمها بدلاً من ذلك داخل غلاف فضفاض من الفضائل التي تُراعي الأخلاقيات الاجتماعية الدارجة.

 وصورة المرأة في الروايات التي كتبها ذكور أكثر تنوعاً وغنى، و..ربما ارتدّ ذلك – على ما يرى الناقد صالح – إلى نضج التجربة الروائية لدى عدد من الروائيين الذكور، لم يُقابل بنضج مماثل لدى الكاتبات الإناث، ولكن يمكن ذكر ملاحظتين بارزتين في هذه العجالة: الأولى: تواتر ما سمته المتابعات الدرسية والنقدية (مومساً فاضلة) لدى عدد من الروائيين السوريين، حيث تُعطى شخصية المرأة المستهترة أحياناً، المأجورة أحياناً، والتي لا تُراعي في سلوكها الأعراف والتقاليد أحياناً، أبعاداً إيجابية تفيض عن الحدود المألوفة، وتُناط بها أدوار ومهمات بطولية وثورية، وهذه الشخصية نجدها في معظم أعمال حنا مينة، (زنوبة) في رواية (بقايا صور) وشكيبة (في (الياطر)، ونجدها أيضاً في أعمال حيدر حيدر (فلة بو عناب) في (وليمة لأعشاب البحر)، والمشكلة البارزة لهذه الشخصية انقطاعها عن تحققها الواقعي، وخصوصاً أننا لا نجد في المجتمع السوري من يتحدث عن فضائل المومسات حتى لو كان ذلك على سبيل الندرة، والاستثناء.

 والثانية: هي أحادية الدور الأنثوي الذي يُعطيه الكتاب الذكور للمرأة، فيحدث في الواقع أن تكون المرأة أماً وعشيقة واختاً وابنة وصاحبة مهنة معينة، و..مانجده في الرواية أن المرأة لا تنتقل بين أدوارها وو ظائفها التي تشغلها في الحياة الواقعية بشكلٍ طبيعي، فالأخت في الرواية أخت فقط، والعشيقة هي عشيقة فقط..حتى لو كانت تُعيل وتربي عدداً من أولادها، ف (خولة) في الوباء لهاني الراهب، بدأت أختاً نموذجية رغم أنها كانت زوجة وانثى طبيعية، وحدث في هذه الرواية أن الكاتب فصّل في ذكر الأسباب التي أدت إلى ضمور الأحاسيس الأنثوية الطبيعية لدى (خولة) وتفرغها من ثمّ لقيامها بدور الأخت النموذجية.

 ومما يُلفت النظر في كثير من النماذج الروائية العربية المعاصرة، – كما يذكر الناقد صالح – إن الروائيين المعاصرين تابعوا تقاليد الشعر الجاهلي أو شعر ما قبل السلام عبر رسم المرأة بالكلمات، وعبر تغليب الجانب الشبقي الشهواني على الجانب النفسي والتكويني الاجتماعي، الأمر الذي يبدو بديهياً فيما يتعلق باستعمال الكلمات لرسم صورة المرأة بدلاً من الألوان، بوصف الرواية والشعر ينتميان إلى فنون القول، ولكن اتساع المساحة الوصفية المخصصة لرسم جسد المرأة ووجهها في الرواية يذكرنا بدأب الشاعر الجاهلي امرئ القيس مثلاً على ملاحظة أدق التفاصيل بغية الوصول إلى صياغة المشهد الكلي للمرأة..!

العدد 1105 - 01/5/2024