الشعر إن حكى.. قرن من الشعر والحياة

في عمره، ألف عام عاشها شاعر إشكالي بامتياز، لكنه غاب ليبقى الشعر حارس الروح والأمكنة والأزمنة، فهو أكثر من مشاعر، ويكاد-عمره- أن يصبح مركّب حيوات كثيرة، لطالما كان سعيد عقل (أسطورة شعرية) مثلها على امتداد إبداعه، وخصوبة عبقريته، وعندما سئل الشاعر السوري الراحل نزار قباني عن أشعر الشعراء العرب، قال: (سعيد عقل إن لم يمانع، وإلا فالمتنبي)، هو إذن شاعر مجدّد وأديب ريادي في مراحل إنتاجه في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، فمن هاجس الفكر وصبوات القلب ومن ثمالات الوجد صاغ قصائده (ليس أقل من الريح طلاقة، وفسحة مدى) هو حجر ضوء من الفردوس الشعري يبني عماراته الشعرية الباذخة، والشعر مسكنه في غير عاصمة عربية، ولعّل دمشق هي واسطة العقد في سكنى الشعر والشعراء، وهذا ما يفسر اليقين بأن كلمات الأغنيات التي أطل بها صوت السيدة فيروز الفنانة الكبيرة، تنتمي إلى مقلعٍ شعري أصيل، فالشعر لصيق بالدراما والغناء، كما استقر ذلك في وعي الشعراء ومنهم الشاعر سعيد عقل الذي جاور النغمة بحرفه المذّهب الخالص، وباح بروائح الهوى كعاشق خضّب شعريته بمفرادات قلبه، ليرفعها غناء عذباً، صدح به صوت فيروز مخّلداً إياها ليعبر كل الآفاق، وهو من قال عنها يوماً: فيروز كانت أغنية. فالقصائد المغنّاة لم تكتب إلا لها.

الشام وسعيد عقل وفيروز…

وعشق الشام في تجلياته عند الشاعر سعيد عقل، لم يكن محض غرض شعري عابر، يكتفي بالوحدة الفنية، وبالتناغم، وجمال الكلمة ورنين ذهبها، بل كان دلالة فهم حضاري وتاريخي، دلالة ثقاية ووجودية، راح الشاعر يبثّها، ويطوّع كل مفرداته ليحكيها، ويضّخ إليها خصوصيته ودفء جذوره، فالشام كما انسكاب الضوء، ووشوشات الحلم، وتعبيرات الرؤيا، حضرت على مساحة لغته، لتتردّد أصداء الأنغام، متجاوبةً مع رهافة الحسّ الشعري، ليتكامل مضمونها، فرحاً ومعرفة وجمالاً، في دلالاتة ومعانيه الرومانسية والرمزية العميقة.

فكان أن كتب للشام عشر قصائد، وخصّها ثقافة روحه، وليبدع لدمشق أول قصيدة هي: (سائليني يا شآم) ويقول فيها: ظمئ الشرق فيا شام اسكبي/ واملأي الكأس له حتى الجمام

أنا لست الغرد الفرد/ إذا قلت طاب الجرح/ في شجو الحمام

لحن منها أربعة عشر بيتاً، من سبعين بيتا، وغنتها فيروز صيف 1961 على مسرح معرض دمشق الدولي.

وفي عام 1962 قدمت فيروز عند افتتاح عروض مسرحية (جسر القمر) قصيدة (قرأت مجدك):

قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب

شآم، ما المجد.. أنت المجد لم يغب

شآم أرض الشهامات التي اصطبغت

بعندمي تمته الشمس منسكب

شآم لفظ الشآم اهتزّ في خلدي

كما اهتزاز غصون الأرز في الهدب

ويلفت الباحث والمؤرخ الموسيقي أحمد بوبس إلى أن في القصيدة إشارة إلى نضال سورية ضد الاستعمار الفرنسي.

ليعود الشاعر في قصيدة جديدة له عن الشآم عام 1963 (شام ياذا السيف) ويقول فيها: شام ياذا السيف لم يغب/ يا كلام المجد في الكتب/ قبلك التاريخ في ظلمة/ بعدك استولى على الشهب.

شام أهلوك إذا هم على

نوب قلبي على نوب

وحدّ الدنيا غدا جبل

لاعب بالريح والحقب

ولتقدم فيروز بأدائها قصيدته (نسمة من صوب سورية الجنوب) قبيل عروض مسرحية بياع الخواتم عام ،1964

هو سماني أنا أغنية

ليت يدري أنه العود الطروب

من بلاد سكرة

قال له تربة ناي ونهر عندليب

ويطب الحب في تلك الربى

ثلما السيف إذا مستّ بطيب

ليأتي العام 1966 وتشدو فيروز بقصيدة سعيد عقل (خذني بعينك) التي يقول فيها:

لي فيك يا بردى عهد أعيش به

عمري، ويسرقني من حبه العمر

هنا الترابات من طيب ومن طرب

وأين في غير شامٍ يطرب الحج

شآم أهلوك أحبابي، وموعدنا

أواخر الصيف آن الكرم يعتصر

شآم يا ابنة ماضٍ حاضر أبداً

كأنك السيف مجد القول يختصر

لتتلوها عام 1967 قصيدته »أحب دمشق« التي افتتحت فيروز بها عروض مسرحية (المحطة) ومما جاء فيها:

أحب دمشق هوايا الأرق

أحبّ جوار بلادي

ثري من صبا ووداد رعته العيون جميلة

وقامة كحيلة

أحب أحب دمشق

هنا والبطولات لا تنضب

تطلع شعب حبيب العلي

إلى المجد بالمشتهى

كلّل دمشق

وأنت الثرى الطيب

غضبت وما أجمل

 فكننت السلام إذا يغضب.

وفي هذه القصيدة إشارة لبطولات الجيش العربي السوري في حرب تشرين التحريرية وتمجيد للشهداء الأبطال والشعب العربي السوري.

وآخر قصائده عن الشام كانت بعنوان (يا شام عاد الصيف) عام 1976 والتي مطلعها:

يا شام عاد الصيف متئداً

وعاد بي الجناح

صرخ الحنين إليك بي

أقلع ونادتني الرياح

إلى أن يقول: كل الذين أحبهم

نهبوا رقادي واستراحوا

فأنا هنا جرح الهوى

وهناك في وطني جراح

وعليك عيني يا دمشق

فمنك ينهمر الصباح

وأنا إليك الدرب والطير المشرّد والأقاح

في الشام أنت هوى

وفي بيروت أغنية وراح

أهلي وأهلك والحضارة وحدتنا والسماحُ

وصمودنا ومواكب الأبطال

من ضحوا وراحوا

يا شام يا بوابّة التاريخ

تحرسك الرماح

هي الشام من حضرت في وعي الشاعر وخلاصة للحق والخير والجمال، ليكتبها ببصيرة شاعر وحيوية عاشق يتفاءل بالغد، وهو يكتب لفلسطين للقدس ومكة، فكانت قصيدته على لسان فيروز مغناة: (سيف فليشهر، لتغني -أجراس العودة بدمشق عام ،1966 و(غنيت مكة) وهو من حمل بيروت ليقول:

فنحن لبنان، وكر النسر دارتنا

والشام جارتنا، يا جيرة الهمم

يا هوى من دمشق لا يفارقني

سكناك في البال سكنى اللون في العلم.

غنّى سعيد عقل للوطن وتغنّى بالمرأة، في (قصائد من دفترها)، و(رندلى) و(دلزى)، و(أجمل منك لا).

وفي النثر من كتبه (يوم النخبة) ليعيد بعنوان جديد (مشكلة النخبة) يطالب فيه باعادة النظر في السياسة والفكر والفن، وكتاب آخر بعنوان: (لبنان أن حكى)، وفي المسرح (قدموس) ومن كتبه الأخرى (خماسيات)، و(الحرف اللبناني)، وصدر له عام ،1981 ديوان شعر باللغة الفرنسية هو (الذهب قصائد) قدم فيه خلاصة أفكاره في الشعر والكتابة والحياة والوجود.

نبوءة!

قبيل رحيله قال جملته: (أقول الحياة العزم، حتى انتهيت تولى عزمي من بعدي) فهل كتب الشاعر والأديب قصيدة رثائه، وهو من أوصى بالمحافظة على نصوصه، والعمل على بثّها في المناهج المدرسية والجامعات، ويقول محاوره الشاعر والأكاديمي اللبناني هنري زغيب عنه: هو متقدّ البصر والبصيرة، شباب في الحيوية والانفعال والحماسة، وقد حاوره لخمسين ساعة، تطرق فيها لسيرته الذاتية منذ طفولته الأولى في زحلة، وتدرجه يافعاً في عالم الأدب، فنزوله إلى بيروت منذ طفولته الأولى في زحلة، وتدرجه يافعاً في عالم الأدب، فنزوله إلى بيروت محدثاً جواً مغايراً في الوسط الأدبي تأثر به حتى من كانوا أكبر منه سنّاً وتجربة، ليظهر ذلك في كتاب عنوانه »سعيد عقل إن حكى« متضمناً وثائق وصور جديدة غير منشورة ومحطات بيوغرافية رواها سعيد عقل للمرة الأولى ألقى فيها أضواء على حياته وأفكاره وشعره وأحداث رئيسية من حياته، فضلاً عن إحدى وأربعين قصيدة للشاعر لم تصدر في أي من كتبه.

جناح عصفور رحل..

فصاحب (بنت يفتاح) و(المجدلية) التي غيّرت وجه الشعر في لبنان، قال عن شعره يوماً: (في شعري شيء من الرمزية، لكن شعري أكبر من ذلك، يضم كل أنواع الشعر في العالم، هؤلاء الذين يتصّدقون أنهم رواد مدرسة من المدارس، ليسوا شعراء كبارا، الشعراء الكبار هم الذين يجعلون كل أنواع الشعر تصفق لهم.

ذهب ليشجّر لبنان بالكلمة، كقوة المثال عن ذاكرة لبنان الثقافية في أزمنة ملتبسة جهر في واحدة منها بعبارة (سورية فوق الجميع)، لكنه في أزمنة تالية عاد ليقول: (يوجعني أني سأمضي وشبابي والأمل، أحمل غابتي معي وسندياناً وقلل، أرض بلادي وحدها تبقى، وديوان غزل، كتبتها أنا على جناح عصفور رحل).

أجل هزم سعيد عقل القرن بسنتين، وظلّت شخصيته المتفرّدة والمختلفة بآن، في فلسفتها (للخاصية اللبنانية) وتشظياتها، من دعوته للقومية العربية ودفاعه عن (العامية) وتطلعه (للقومية الفينيقية) في رحلته مع الشعر والحياة كلاعب ريشة، لكنه العاشق الطرِبُ، المثقل بغبار النجوم، وشظايا قلمه من ملأ الدنيا وشغل الناس، وكأنما به استعار حصان امرئ القيس، على صخرة معلقة في سماء لبنان.

سعيد عقل

ولد الشاعر والأديب سعيد عقل عام 1912 في مدينة زحلة البقاعية، وكان يعتزم التخصص في الهندسة إلا أنه وهو في الـ 15 من عمره خسر والده خسارة مالية كبيرة فاضطر (الشاعر الصغير) كما كان يلقب للإنصراف عن المدرسة ليتحمل مسؤولية ضخمة، فمارس الصحافة والتعليم في زحلة.

وكتب في الصحافة اللبنانية ومنها (البرق والمعرض، ولسان الحال، والجريدة، ومجلة الصياد). درس في مدرسة الآداب العليا التابعة للأكاديمية اللبنانية، وفي الجامعة اللبنانية درّس مادة تاريخ الفكر اللبناني، وألقى دورساً لاهوتية بعد تعمقه في اللاهوت المسيحي حتى أصبح فيه مرجعاً، ودرس تاريخ الإسلام وفقهه.

العدد 1104 - 24/4/2024