روما في العصر القديم… في كل حمَّام مكتبة عامة

اتصل الرومانيون في وقت مبكر مع الأترسكيين ومع اليونانيين القاطنين في إيطاليا الجنوبية، وتعلموا منهم الكتابة واحترام الكتاب، خاصة خلال الحرب البونية في نهاية القرن 3 ق.م، إذ أخذت المؤثرات الثقافية اليونانية تفرض نفسها على العالم الروحي للقوة الرومانية الضاربة في حوض المتوسط، لذك لم يعد القادة العسكريون يعودون إلى روما بالعبيد وغنائم الحرب الأخرى، بل بمكتبات كاملة نهبوها من المدن اليونانية المفتوحة، فقد حمل القائد (لوتسيل أميل) معه إلى روما مكتبة الحكام المقدونيين في عاصمتهم، وذلك سنة 168 ق.م في موقعة بيدنا، أما القائد (لوكول) فبعد انتصاره على ملك بونت (ميتريرات) حمل معه إلى روما مكتبته الغنية، وكذلك فعل القائد (سول) الذي فتح أثينا سنة 84 ق.م إذ ضم إلى غنائمه بقايا مكتبة أرسطو.

هذه الأمور جعلت للكتاب مكانة يحتلها عند هؤلاء القادة العسكريين وفي نظر الشريحة العليا من المجتمع الروماني.

ثم انتشرت المكتبات انتشاراً واسعاً في روما، فبعد أن رأى يوليوس قيصر مكتبة الإسكندرية ذهل، فقرر أن يبني في روما مكتبة كبيرة عامة على نمطها، وعهد بذلك إلى أشهر كاتب روماني في عصره (مارك. ت. فارون) الذي توفي سنة 27 ق.م، لكن هذه المكتبة لم تنجز بسبب اغتيال قيصر سنة 44 ق.م، لكن بعد عدة سنوات قام بذلك الشاعر والقائد العسكري أذينة بولبون، وقد غطى نفقاتها مما غنمه في حربه مع الإليبريين في دالماتيا. وقد بنى الإمبراطور أغسطس مكتبتين كبيرتين، الأولى سنة 28 ق.م على رابية بالإتينا، والثانية بعدها فوراً في سهل مارس على شرف أخته أوكتافيا، وكانتا كغيرهما تضم كل واحدة منهما أقساماً مستقلة للكتب اليونانية والكتب اللاتينية، كما كانت المكتبات تزين بتماثيل الشعراء والكتاب والعلماء.

وقد استمر الأباطرة الذين خلفوا أغسطس في بناء المكتبات، فقد أقيمت مكتبة عامة كبيرة في المعبد الكبير الذي بني تكريماً لأغسطس وزوجته ليف، وكذلك بنى الإمبراطور تيبر مكتبة تيبر، وبنى الإمبراطور فسبازيان مكتبة في معبد السلام الذي بناه بعد انتصاره على اليهود.

أما أضخم مكتبة عامة في روما فقد بناها سنة 113م الإمبراطور ترايان، ودعيت مكتبة أولبيا وكانت تقع في ساحة ترايان ومازالت آثارها باقية إلى اليوم، وهي عبارة عن بناءين متقابلين في ساحة ثرايات بالقرب من ساحة روقانوم التي كانت من أكثر الأماكن ازدحاماً بالمارة.

في ذلك الوقت كانت روما تؤكد مكانتها، بوصفها أقوى مركز ثقافي في حوض المتوسط، فقد أصبحت المكتبات الضخمة التي أقامها الأباطرة مكاناً يجتمع فيه الشعراء والفلاسفة والعلماء وباعة الكتب، حتى ساحة ترايان التي صممت لتكون مجمعاً للعالم الثقافي المتنوع، لذلك كان فيها إضافة إلى المكتبة مدرجان على شكل نصف دائرة للمحاضرات والمناقشات وإلقاء الشعر.

مكتبات الحمامات

وفي عصر الإمبراطور ترايان أمر بإقامة مكتبة في حمام عام، وكل ذلك محاولات لتوفير الكتاب للقراء في ذلك الوقت إلى ذروتها، وهو بهذا العمل وفر الكتاب للشعب في الأماكن التي يكون فيها، وبهذا الشكل انتقل الكتاب إلى وسط الناس وإلى قلب الحياة عوضاً عن أن ينتقل الناس إلى مكتبات معزولة ومحجورة للنخبة المثقفة، وبهذا الشكل صار الكتاب جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية ووقفاً عاماً بأفضل ما في هذا التعبير من معنى. قد تابع الأباطرة الآخرون بناء الحمامات على نمط ما قام به ترايان، لذلك نجد مكتبة في حمام كاراكال في بداية القرن 3 م، ومكتبة حمام ديوكلسيان في بداية القرن 4 م، وتعد آخر مكتبة عامة بنيت في روما حلال العصر القديم.

وفي الواقع إن إقامة المكتبات في الحمامات هو اختراع روماني، كما أن الحمامات ذاتها سمة الحضارة الرومانية، فالحمامات في العصر الروماني لم تكن فقط للاغتسال والاستحمام، بل كانت أيضاً مكاناً لاجتماعات التجار، ثم مارست لاحقاً دوراً مهماً في الحياة الثقافية بعد أن أصبحت مكاناً يجتمع فيه الشعراء لإنشاء قصائدهم، والفلاسفة والعلماء الذين يستعرضون أفكارهم ويدافعون عنها.

وقد لعب المهندس الدمشقي المعروف (أبولودور) الذي صمم حمام ترايان دوراً كبيراً في جعل الحمام متعدد الأدوار في الحياة اليومية للسكان في روما.

لذلك فقد أدخل أبولودور في تصميم الحمامات قاعات للمكتبة، قاعة للكتب اليونانية وقاعة للكتب الرومانية، وقاعات أخرى للنشاطات الثقافية التي أصبحت تتم تحت سقف الحمامات إضافة إلى النشاطات الصحية والرياضية.

العدد 1107 - 22/5/2024