كيف جمعت مستغانمي الصيف والشتاء فوق سطح واحد؟

رغم تحذيرات الأطباء لي بالابتعاد عن الملح وعن الروايات البائسة، إلا أن الملل الذي يسببه طول الوقوف على حواجز الطرقات، قد دعاني الى تناول رواية من يد صديقتي وقراءتها أثناء هذا الفراغ، والرواية هي (الأسود يليق بك) للكاتبة أحلام مستغانمي.

الحقيقة أنه كان بإمكاني ببعض التساهل أن أغض النظر عن كثير من الملاحظات بشأن الأسلوب والحبكة والشخصيات،وأعتبرها رواية عاطفية تناسب العشاق الكسولين الذين يرغبون باقتباس بعض عباراتها الرنانة، للاستفادة منها في مراسلاتهم مع الطرف الآخر، لولا أن لفت انتباهي مرور يبدو عابراً لطعم سياسي واضح المغزى، ولا ادري إن أشار إليه أحد من الذين كتبوا عن الرواية التي صدرت منذ سنتين تقريباً. ولكي لا تصبح هذه الملاحظة هي محور حديثنا عن الرواية، فلا بد من قراءتها كاملة.  وأعود للقول أن السمة الأساسية فيها هي الأسلوب الذي يعتمد براعة الألفاظ والتشبيهات، إضافة الى تضمينه حكايا ومواقف تخص المشاهير، بحيث تحيل أية فكرة مهما كانت بسيطة الى مرتبة حكمة تصلح للتدوين على مفكرات المراهقين والعشاق المغرمين بتضخيم أحوالهم الوجدانية. أما القصة فهي في غاية البساطة، إذ هي سرد لقصة حب تجمع بين هالة وهي مطربة جزائرية مبتدئة في العشرينات من عمرها مع طلال وهو رجل أعمال لبناني فاحش الثراء في الخمسين من عمره! ومن السطر الأول تتوضح لنا معالم شخصية البطل غير السوية، فحيناً يبدو لنا كرجل (جنتلمان) يعرف كيف يتصرف مع النساء، مستمع راق للموسيقا العالمية، لاعب شطرنج بارع، قارئ نهم للكتب، يعشق الطبيعة ويصادق الأشجار، ومرة نراه كشخص سخيف يشغل نفسه بالتجسس على مكالمات حبيبته وتحركاتها في الشوارع، نراه يوماً يعيب على الفتاة تجاهلها لرغبات جسدها، ثم نفاجئ به يتهمها إذا وقفت في الشارع للحديث مع رجلين من وطنها. وهو حيناً يبدو بأنه يبحث في شخص الحبيبة عن الوردة البرية والبراءة المفقودة في جنس النساء اللواتي لا يحببنه إلا من أجل جيبه، ثم نراه يصرح: (إن براءتها تلك تزعجه، ثمة إغراء في أن تكون المرأة ماكرة متطلبة، يطمئنه أن تستغله).

أما البطلة فليست أحسن حالاً، فالمعلمة التي تحولت بالصدفة الى مطربة همها وقضيتها منازلة الإرهابيين الذين يريدون منعها من إيصال صوتها للناس، تدعونا بداية للإعجاب بها وبقضيتها، ثم لا نلبث أن نرى أنها تقع في أول فخ عاطفي ينصب لها، لا لشيء سوى لأنه فخ باذخ جداً، و إلا فكيف نفسر غرام فتاة شابة بكهل ثري؟ إذ أن هذه الفتاة الجبلية التي تعتز بقبيلتها، وبسيرة أجدادها، وتغني انتقاماً ممن قتلوا والدها وشقيقها أثناء أحداث التسعينيات في الجزائر، رافضة الاستعباد بكل أشكاله، لا تستطيع أن تفسر لنا عبوديتها لذاك الرجل الثري الذي يجبرها مرة على الغناء له وحده في مسرح فارغ إلا منه، ومرةً يدفعها للسفر من قارة الى قارة لملاقاته، في الوقت الذي لا يتنازل هو عن إلغاء عمل أو موعد اجتماعي للتفرغ لمن طارت من آخر الدنيا استجابة لأمره… لا شك أن في الحب نوعاً من العبودية، لكن مع ذلك لم أشعر بحرارة العاطفة التي تحيل فتاة متميزة الى أنثى خانعة يتحكم فيها رجل لا يريد الاعتراف حتى بمكانتها في قلبه، بل غالباً ما يعاملها كعشيقة ليس أكثر، فهو من يحدد متى يراها ومتى يستغني عنها، وهو من يدعوها الى تغيير نمط لباسها لتنسجم مع مكانته الاجتماعية، والأهم من ذلك أنه فعل ما لم يستطع الإرهابيون فعله معها، إذ منعها من الغناء في الحفلات، وجعل علاقتها بالفن على مزاجه هو. لكن على ما يبدو فإن ارتجاجها العاطفي سابق لمعرفتها بهذا الرجل، إذ حين تعود بذاكرتها الى الوراء، نكتشف أنه كان لها حبيب في الجزائر وتقول عنه: (مصطفى هو الوحيد الذي كان من الممكن أن يسعدها. كانت تحب طلته المميزة، أناقة هيئته، شجاعة مواقفه، طرافة سخريته….. مصطفى تمنته زوجاً…) ثم تتابع: (لو قالت له وقتها أنها تحبه، لربما كانت الآن في معسكرات الاعتقال العاطفي، وبدل أن ترزق بألبوم، لكانت هناك تخدم أمه وتربي أولاده) هل لاحظتم المفارقة العجيبة؟ إذا تزوجت شاباً طبيعياً صارت معتقلة وظيفتها تربية أولاده وليس أولادهما معاً، أما حين تستجيب لرجل خمسيني متزوج وله أولاد، وفوق ذلك يصرح لها بأنه يحب زوجته ولا يستغني عنها،فهنا لا ترى في ذلك أي اعتقال عاطفي أو غيره! وهي في سبيل ملاقاته مستعدة للكذب على أمها وجمهورها، أما هو فيبدو حريصاً  لدرجة أن يمحو كل اتصالات هالة به من جهازه الخليوي بشكل فوري عقب كل مكالمة، ويرفض رؤيتها في بيروت لأن كل الناس تعرفه هناك، بل يظهر لنا أكثر حرصاً من مشاهير السينما لدرجة أنه غير قادر على السير معها في شوارع باريس خوفاً على سمعته! وهي حين تريد أن تظهر كفتاة ذات كرامة ترفض أحذ المال منه حين يقدمه لها من أجل شراء هديه لأمها، لكنها تقبل أن يستضيفها في بيته الفخم في باريس، أو أن تنزل في جناح فندق اسطوري على نفقته… ليس هذا فحسب، فبنت الجبل المكافحة والمعتزة بأصولها، سرعان ما تبدأ بالتبرؤ من واقعها أمامه، إذ تستأجر في بيروت شقة أعلى بكثير من إمكاناتها، لا لشيء إلا لتستقبله فيها، فتمحو من ذهنه صورة غرفتها البائسة، ثم حين تجلس معه في مكان فخم، تخشى دوماً أن تتصرف مثل العامة، فهي قد أصبحت (خاصة) اسمعوا ما تقول: (كل شيء كان خرافياً في أبهته وفخامته، لكنها قررت ألا تبدي انبهارها بشيء. وحدهم الفقراء ينبهرون.) أو (جلسا متقابلين على طرف الطاولة. الوجاهة تحتاج الى مسافة. كانت بعد تلك القطيعة متلهفة للاقتراب منه، لكن وحدهم البسطاء يتقاربون ويتلاصقون. تساءلت كيف سيتسنى لهما تبادل الحديث على هذه المسافة. ثم استنتجت أن الوجهاء لا يتحدثون كثيراً..الثرثرة من صفات العاديين من الناس.. أو العشاق).

وفي نهاية الرواية حين تقابل هالة الشاب الجزائري عز الدين الذي يعمل في المنظمات الإنسانية، ويدعوها للغناء في حفل خيري لصالح اللاجئين العراقيين في سورية، نرى أن كل القضايا قد أصبحت وراء ظهرها ما عدا قضيتها مع الرجل الذي طردها من بيته وحياته الباذخة: (كان مهموماً بالعراق، بإمكانه أن يحكي لساعات عن بلد المليون نخلة الذي غدا بلد المليون قتيل، لكنها كانت أكثر سعادة من أن تصغي لما يقوله، إنها فرصتها لتعود الى الأضواء من علو شاهق، تريد أن يراها ذلك الرجل وهي واقفة على تلك القمة مع الكبار).

وهكذا نرى أن مصير قضيتها ليس أفضل من قضية حبيبها، فهو- بالمناسبة – كانت لديه قضية في مطلع حياته أيضاً، لكنه اكتشف مبكراً خدعة القضايا وزيف الشعارات، فهرب الى البرازيل حيث بنى ثروته هناك، ومن هنا يتأكد لنا أن زج الموضوع السياسي في الرواية ما كان لخدمة هذه القضايا، إذ بدت مقحمة، خصوصاً حين تزج لغرض تجميلي بحت يهدف لخدمة الشكل بدون أية مناسبة، فحين يتذكر طلال عشيقته السابقة يواسي نفسه قائلاً: (لقد تركها أرضاً محروقة، من يأخذها منه فسيأخذها أنثى بلا قلب، استناداً الى قول أحدهم من أراد العراق فسيأخذها  أرضاً بلا شعب) أو قولها عن نفسها (أقدرها أن تلجأ الى طاغية كلما هربت من آخر. كالشعوب التي تستبدل بالطغاة الغزاة، كل من استنجدت به كان ينوي احتلالها.). ومن هنا نتجه الى النقطة التي تحدثنا عنها في البداية، فالبطلة  التي قتل والدها وشقيقها على يد المتشددين الإسلاميين تشرح  لنا مطولاً ممارساتهم المجرمة بحق  الجزائريين  أيام التسعينيات، سرعان ما تقلب الصفحة وتغير اللهجة، إذ نكتشف – ويا للمصادفة –  أن أم البطلة من أصل سوري، ومن مدينة حماة تحديداً، وقد عانت هي الأخرى من مأساة قتل والدها هناك أمام عينيها وعيون إخوتها الصغار، لكن المفاجأة هناك، حين نعلم أن من قتل هؤلاء ليس المتشددين، وإنما الجيش السوري… (دخل الجيش السوري الى حماة لينظفها من الاسلاميين فمحاها من الوجود، كانت حماة الورعة التقية تدفن ثلاثين ألف قتيل في بضعة أيام. كان ثمة زحمة موت) هذا في سورية أما حين نعود الى الجزائر فتقول: (كان الموت ينتظرها في سيناريو آخر، هذه المرة ليس الجيش الذي يقتل الأبرياء بشبهة إسلامهم، بل الإرهابيون يقتلون الناس بذريعة أنهم اقل إسلاماً مما يجب).

إنها بضعة أسطر فقط وضعت في الرواية التي كتبت في نيسان ،2012 أي بعد عام من بداية الأحداث في سورية، وعلى سبيل الخبث سأتنبأ بأن يكون أبطال رواية أحلام مستغانمي القادمة سوريين وثواراً طبعاً.

العدد 1105 - 01/5/2024