الفنان التشكيلي لؤي كيالي ذكرى رائعة وظاهرة مريعة في التشكيل السوري

لم يكن لؤي كيالي الفنان الذي سطع نجمه في فضاء التشكيل السوري خلال العقدين السادس والسابع من القرن العشرين وحسب، بل كان وما زال رغم رحيله الفنان الذي تبوأ نتاجه التصويري مكانة متقدمة في الفن العربي المعاصر.

ما كان لؤي كيالي الأكثر إبداعاً، والأغرز إنتاجاً في محيطه الفني، ومع ذلك فقد استطاع انتزاع إعجاب الوسطين الفني والثقافي بلوحته وشخصه ومسيرته الإبداعية الاستثنائية التي قدم خلالها أعمالاً تصويرية تتسم بالواقعية التعبيرية عبر لغة تشكيلية بسيطة، تحمل مفرداتها نبرة شاعرية حزينة ومفعمة بالهموم الإنسانية التي كان الجمهور مستعداً للتعاطف معها، والاستجابة لما تطرحه من موضوعات إنسانية وقومية في الوقت الذي لم يكن لدى الناس استعداد لتذوق النبرات الفنية الحديثة المتعثرة التي كانت تفيض بها الساحة الفنية العربية والمحلية، هذا ما جاء في كتاب (تجارب تشكيلية رائدة)… للأستاذ طاهر البني، الصادر مؤخراً عن وزارة الثقافة ـ الهيئة العامة السورية للكتاب.

المعرض الأول

كان أول عرض للوحات الفنان لؤي كيالي في مدرسة التجهيز الأولى بحلب (ثانوية المأمون) وحين حصل على الثانوية العامة 1954 انتسب إلى كلية الحقوق في الجامعة السورية بدمشق، واشترك في معرض الجامعة عام 1955 وفاز فيه بالجائزة الثانية. أرسل في بعثة إلى روما عام 1957 عكف على دراسة ما أنتجه فنانو القرنين الثاني عشر والثالث عشر في إيطاليا وتأثر بفن (الفريسك) وأساليب معالجته، وعاد إلى دمشق في عام 1961 بعد أن نال شهادة أكاديمية الفنون الجميلية في روما – قسم الزخرفة ـ وحصد مجموعة من الجوائز والميداليات أثناء دراسته ومشاركته في بعض المعارض التي أقيمت في إيطاليا.

وما كاد يستقر به الحال في دمشق حتى بادر إلى إقامة معرضه الأول في سورية في المرسم الفني لعام 1961 حيث عرض 28 لوحة زيتية و30 رسماً تخطيطياً أنجز بعضها في إيطاليا قبل عودته للبلاد.

فاستقطب اهتمام الأوساط الفنية والثقافية التي وجدت في أعماله وضوحاً في الرؤية ورصانة في الأسلوب وجدية في العمل. كانت أعماله في هذا المعرض تتسم بالواقعية من حيث الصياغة الشكلية التي تعكس موضوعات مستمدة من الواقع مباشرة.

وكانت موضوعاته تشمل بعض مشاهد الأبنية الإيطالية العريقة كلوحة (فينيسيا) والزهور التي تحاكي زهور (فان كوخ) مع شيء من الحس الزخرفي العفوي، إضافة إلى العناصر الإنسانية المتمثلة بالنسوة الحالمات ذوات العيون الحزينة، والفتية الذين يعانون وطأة البؤس والتشرد كلوحتي (العيون الحزينة) و(البائع الصغير).

وقد صادفت هذه الموضوعات استحساناً لدى جمهور الستينيات الذي يتطلع إلى عطاء جديد في الحركة التشكيلية السورية التي تعاني غلبة النتاج التقليدي الهش وفجاجة التجارب المجددة التي تسعى لإيجاد صيغ تشكيلية محدثة، تستفيد من تقنيات الغرب، وتطمح إلى خلق فن عربي أصيل، غني بمفرداته الشرقية والإسلامية.

الرحيل

في ليلة التاسع من أيلول 1987 بينما كان لؤي في غرفة صغيرة استأجرها عند بعض العائلات في أحد الأحياء المتطرفة من حلب، في تلك الليلة.. أكثر لؤي من تعاطي الحبوب المخدرة، وسقطت لفافة التبغ من يده الواهنة فأحرقت فراشه، وأتت ألسنة النيران على جسده المتهالك، ولم ينتشله منها إلا صحوة الجيران الذين اشتموا رائحة الدخان المنبعثة من غرفته، فهرعوا إليه، وقد أذابت النار معظم جلده، وناشدت نقابة الفنون المسؤولين لإنقاذ الفنان الكبير، فأرسلوا طائرة عمودية نقلته من مستشفى حلب الجامعي إلى المستشفى العسكري في حرستا (شمال دمشق).

مكث لؤي في مستشفى حرستا أكثر من شهرين في محاولة يائسة لعلاجه وإنقاذه، ففارق الحياة في السادس والعشرين من كانون الأول عام 1978 وفي اليوم التالي ووري الثرى في (مقبرة الصالحين) في مدينة حلب.

وأسدل الستار على مأساة لؤي كيالي الذي بات ذكرى رائعة وظاهرة ومريعة في الحياة التشكيلية السورية التي تألقت بإنتاج لؤي، وفجعت برحيله، فأقيمت له حفلات التأبين، وتبودلت كلمات العزاء، وسارعت الجهات الرسمية والخاصة لإقامة المعارض له ولتحيته، وعقدت الندوات التي أفاضت في الحديث عنه وعن تجربته، وذرفت دموع الأسى على فراقه ورحيله، ووجد الانتهازيون فرصتهم للمتاجرة بأعمال لؤي، فراحوا يتقصونها في البيوت والأماكن التي تأويها، بعد أن ارتفعت أسعارها إلى مئات آلاف الليرات السورية.

لقد رحل ضحية المترفين الذين أحبو مصادرته لحسابهم وشراء مهارته بأموالهم، كما رحل ضحية الغوغائيين ممن يكتبون في الصحف ويدعون النقد دون رؤية واعية متبصرة، محاولين تقويم الفنان بآرائهم المعوجّة، وأساليبهم التي لا تنقصها فجاجة الكلمة وفساد النوايا.

العدد 1104 - 24/4/2024