المحاكمة العادلة

الإنجازات البشرية سلسلة شارك في وضع حلقاتها كل الحضارات وكل الثقافات على مستوى البشرية جمعاء، وبالتالي حقوق الإنسان هي منتج إنساني نتيجة للنضالات التي ركزت على مبادئ الكرامة والحربة والعدالة والمساواة والإنسانية والرحمة والخير. ولأن الطبائع الإنسانية معرضة للخطأ، تنتشر المظالم وتعم الفوضى أحياناً. ولإعادة الأمور إلى نصابها كان لابد من تحقيق العدالة بين أفراد المجتمع، وهي تعتبر أهم الغايات التي سعى إليها الإنسان لتحقيق حياة هادئة وآمنة ومستقرة.

فمع تطور الفكر الإنساني انشئت جهات تعنى بتكريس العدالة، لتعزيز دولة الحق والقانون وتكريس منظومة الحقوق والحريات. ومن هنا يمكن القول: لكل متهم الحق في محاكمة عادلة، وهي حق من حقوق الإنسان ولا تخص القضاء الجنائي وحده بل تشمل القضاء المدني وغيره من شُعَب القضاء، وهي غير قاصرة على مرحلة المحاكمة بل تشمل كذلك مرحلة ما قبل المحاكمة وما بعد المحاكمة. ومن أجل إدراك المحاكمة العادلة التي شكلت وما تزال هاجساً ومطلباً، فقد نصّت عليها اللوائح والاتفاقيات الدولية، واعتبر الالتزام بمعاييرها العادلة شرطاً من شروط تأسيس دولة القانون اعتماداً على المساواة بين أفراد المجتمع، وحقاً من الحقوق الأساسية التي أكدها الدستور ونصت عليها القوانين الوضعية، ونظمها قانون أصول المحاكمات الجزائية للوصول إلى العدالة عبر مراحل وإجراءات التحقيق والمحاكمة.

 وتعد قواعد ومبادئ المحاكمة العادلة في القانون الدولي مشمولة بعدد من الصكوك، أهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 في المواد (8و10و11)، فقد نصت المادة 10 على: (لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة نظراً منصفاً وعلنياً، للفصل في حقوقه والتزاماته وفي أي تهمة جزائية توجّه إليه). وما نص عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 14 ومبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية وغيرها من الصكوك والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها جميع الدول ومن ضمنها سورية، لاعتبارها نصوصاً دولية متفقاً عليها تسعى لحفظ حقوق الإنسان وحياته وكرامته من الانتهاكات التي تنجم عن ممارسة الدولة  لنفوذها بشكل تعسفي.

فكان من الطبيعي أن تتأثر القوانين الوضعية بما ورد في الاتفاقيات الدولية سواء على مستوى أسمى قانون في الدولة (الدستور) الذي تضمن في الباب الثاني موضوع الحقوق والحريات وسيادة القانون، أو على مستوى القوانين العادية التي نصت على ضمانات المحاكمة العادلة، منها: مبدأ الشرعية الجنائية، فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني _ ومبدأ شخصية الجريمة والعقوبة _ عدم رجعية القانون الجنائي _ حق المتهم في القانون الأصلح له _ مبدأ البراءة _ أن تجري المحاكمة دون تأخير _ علانية المحاكمة _  وغيرها من المبادئ. وهذه كلها ضمانات مباشرة موضوعية وإجرائية. وهناك ضمانات غير مباشرة يساهم مرفق القضاء في تحقيقها من خلال احترام المبادئ التي يقوم عليها التنظيم القضائي بدءاً بمبدأ استقلال القضاء -ومبدأ التقاضي على درجتين -ومبدأ المساواة أمام القضاء -والاختصاص -والحياد- والقانونية والديمومة. -أي أن تكون المحكمة منشأة بموجب القانون وليست اعتباطية ذلك أن المحاكم المؤقتة والطارئة والاستثنائية تظل بمفهوم حقوق الانسان محاكم غير عادلة، لعدم توافر هذه الضمانات والمعايير للمحاكمة العادلة.

ولكن يؤخذ على التشريع الداخلي أنه اشتمل على الحق ونقيضه، أي كفله بنص ومنعه بنص آخر. وكذلك ما يجري في الممارسة العملية من خلال تطبيق القانون والتجاوزات على نصوصه، وأيضاً التناقض بين النص على المساواة أمام القانون وبين أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، فهذه التناقضات فتحت الباب على مصرعيه للتمييز بين قوانين تكرس عدم المساواة وتشريع نافذ يكفل الحق في محاكمة عادلة. ومن هنا نجد أن الدستور وبعض القوانين تسحب ما تعطيه من صلاحيات في نصوص معينة بانتهاكها للحق في نصوص أخرى وضياع مشروعيته، وهذا ما يتطلب إصلاح المنظومة القضائية بالوعي من القضاة والمدعين العامين والمحامين بالدور الاساسي الذي يضطلعون به في إعمال سيادة القانون بما في ذلك الحق في محاكمة عادلة في جميع الظروف وبضمنها حالات الأزمات.

 وأيضاً تعميق وعي المواطن بحقوقه المشروعة وتمسكه بها، وهذا ما نراه اليوم في الحالة التي تمر بها بلادنا سورية من عدم استقرار، فقد وسعت دائرة التجريم السياسي المخالفة للمعايير الدولية، وفي تنامي ظاهرة الإرهاب التي تهدد الأمن الداخلي والجيش الوطني والمدنيين، وهي تتطلب تدقيقاً في مفهوم الجريمة الإرهابية وتوفير أكبر قدر من ضمانات المحاكمة العادلة، والمقارنة بين ضرورة النجاعة في المعالجة القضائية لمكافحة الجريمة الإرهابية، والحفاظ على الحقوق والحريات والحد من الانتهاكات التي تصاحب المحاكمة،

فتحقيق العدالة هو السبيل نحو تحقيق الأمن الاجتماعي وتحصينه وتمتّع الإنسان بكل حقوقه  من خلال توفير الضمانات القانونية والقضائية والعملية في كل مراحل العملية القضائية.

العدد 1104 - 24/4/2024