حلاوة الروح في لحظات حريق

كان خوفاً لم يعرف له حدود وكأنها القيامة، فالناس من كل حدب وصوب يهرعون وخوفهم قد قطّع أوصالهم، هو مشهد عظيم لا أحد يستطيع تخيله عندما بدأت النار تشتعل هنا في مركز الإيواء، لتتراءى صور أثارت الحزن في نفوسنا من شدّة قساوتها، وكل مشهد قد حمل الكثير من الرعب بقلب صاحبه، رعب من المجهول أو من الدقائق الآتية التي ستغيّر مستقبلهم الى مالا يتوقعونه وما لا يتصوره العقل..

صراخ النساء، عويل الأطفال وبكاؤهم أرعب الرجال..كل هذا عندما شبّ حريق هائل في مركز الإيواء، فقد كانت دقائق معدودة استغلتها النار لتشتد، ولم يستطيع أحد أن يحجمها خاصة بسبب عدم وجود مطافئ حريق احتياطية في المركز، فزاد هذا من اتساع الحريق أكثر، فطلبوا منا الخروج إلى الشارع لحماية الأطفال الذين كبلهم الخوف، فخرجنا مسرعين تاركين وراءنا كل ما استطعنا أن نملكه في غرفتنا الصغيرة، حتى أوراقنا الشخصية، وكأن مشهد النزوح قد تكرر معنا على حين غفلة لنخرج بثيابنا فقط، ولتحدثنا أنفسنا بأننا لن نعود مرّة أخرى..

وقفنا نتأمل حجم النار وقد أثار في السماء بركاناً من الدخان الذي ينذر بالشؤم وقد كان بكاؤنا شديداً،كأننا لم نبك منذ زمن بعيد إلى أن أتى رجال الإطفاء مسرعين وقد رافقتهم سيارات الإسعاف للإنقاذ،  ربما لم يكن الوقت قد مضى  طويلاً حين مجيئهم، لكننا شعرنا كأنه عام لشدّة قساوته علينا ونحن مستغرقون في النظر إلى تلك العجوز التي تطلب المساعدة وهي تحمل حفيدها الصغير، وقد علقت في الغرفة ولم تستطع الخروج، فطلّت تستنجد من النافذة إلى أن أتى رجال الإطفاء فتم إخراجها وحفيدها ونقلهما إلى المشفى، وفي مشهد آخر أثار في نفوسنا الحزن أن زوجين لم يستطيعا الخروج أيضاً فطلّا من النافذة مستنجدين وسط تصاعد الدخان من الغرفة، وقد حمل الزوج شاحن إنارة وبدأ يلوح به ليلفت أنظار الناس في الخارج إلى أن أتى رجال الإطفاء والإسعاف وأنقذوه أيضاً وزوجته..

أما ما حدث مع عدي فقد كان من أكثر مشهد مؤلم في قصتنا، فعندما اشتعل الحريق كان مع شقيقه التوءم قصي في الغرفة  مع والدهما، فطلب منهما والدهما الخروج إلى الباحة ليطفئ قاطع الكهرباء، وكان لديه خوف من الانفجار في الغرفة، لكن عدي ابن الثالثة عشرة أبى أن يخرج دون والده فسبقه شقيقه إلى الخارج وتعسّر خروجهما من الغرفة لشدة الدخان الذي ملأها، فظلا عالقين إلى أن تم إخراجهما مغمى عليهما وأسعفا إلى المستشفى، والأكثر ألماً رؤية قصي شقيق عدي وهو مغمى عليه، فركض مسرعاً لكي يراه وهو يصرخ باسمه فقد تراءى له بأنه قد فقده..

هي بعض المشاهد من المأساة التي عشناها وهنالك غيرها، فهي قد أعادتنا إلى ما قبل عامين عندما تهجرنا من منازلنا قسراً، لكن هذا الشعور بقي مرافقنا لنحو ساعتين الى أن انتهى كل شيء، لكننا نحمد الله لعدم وجود أي أضرار لأي شخص، والذين أسعفوا الى المستشفى عادوا في اليوم التالي وهم بخير، وأما الأضرار المادية فيتم تعويضها لاحقاً وورشات الصيانة بدأت تعمل في الكهرباء والدهان والخشب وغيرها..

لكن، في غمرة الاندفاع بعيداً عن النار، بعض المسنين القاطنين هنا لم يجدوا المساعدة حتى من أقرب الناس منهم، كلٌّ مضى لإنقاذ نفسه، فالولد لم يسأل عن والده ولم يسأل عن والدته المسنة لتكون من بين الخارجين وسط الدخان وحدها من حلاوة الروح، كأنه يوم القيامة يوم لا ينفع به لا مال ولا بنون..

 ربما سيأتي يوم ونتذكر هذه الحادثة بقليل من المزاح لتكون ذكرى قد تعلمنا منها الكثير لنتجنبه في المستقبل، كمساعدة الغير مهما كانت الأسباب والظروف، وأن لا نستغل ضعف أحد أو عدم وجوده لنطعنه من ظهره، فربما يأتي يوم ونتبادل الأماكن لنكون نحن الأضعف بوجهه.

العدد 1104 - 24/4/2024