سميح القاسم يرحل منتصب القامة..

إن أكثر الأغنيات القصائد التي كان لها حضورها البهي ومازال هي قصيدة (منتصب القامة أمشي) للشاعر الكبير سميح القاسم، هذه القصيدة التي لحنها وغناها مارسيل خليفة ترتكز في بنيتها على الوضوح الذي يتميز به شاعر كبير مثل سميح القاسم، إضافة إلى  ارتكازها على البساطة والقوة في المفردة الشعرية التي تتوهج بين تنويعات اللحن والجملة الموسيقية. ولسميح القاسم الأسلوب الخاص الذي يميزه عن أقرانه في طرح الفكرة الوهاجة والواضحة والتي دفع ثمنها اعتقالا وإقامة جبرية.

تنشغل الأغنية القصيدة في تركيبتها اللحنية  على مقام الرست،  واختيار مارسيل خليفة لهذا المقام له أسبابه الجمالية والأدائية، لأنه يمثل البساطة والعمق في اللحن، ففي بداية الأغنية وقبيل انطلاق الجملة الشعرية يهيئ خليفة المستمع للدخول في فضاء اللحن والمقام، بتنويعات على العود على  مقام الرست، إذ للصعود والهبوط في اللحن شكله ووظيفته في أجواء اللحن، هذا من جانب، ومن جانب آخر يشتمل البعد الجمالي في الأغنية، حين تتفق مجموعة الآلات النفخية والوترية لتؤدي الجملة الموسيقية ذاتها، فبعد المقدمة الموسيقية المعروفة والتي ترتكز على البساطة ينفرد العود في أداء الجملة وتتبعه بقية الآت:

(منتصب القامة أمشي

مرفوع الهامة أمشي

في كفي قصفة زيتون

وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا وأنا وأنا أمشي)

في خاتمة الجملة الشعرية الأولى (وأنا أمشي) يوضح مارسيل خليفة فكرة الصمود ويعبر بصورة موسيقية عن المسير في درب النضال والمقاومة  ضد المحتل الغاشم، ويفتح فضاءات جديدة تضيف إلى المفردة الشعرية التي أسسها سميح القاسم، إذ تتفق الإيقاعات مع الآلات النفخية في هذه الجملة لتعبر عن حركة المسير في إيقاعات مسلسلة.

في الكوبليه الوحيد للقصيدة الأغنية يرفع مارسيل اللحن إلى  ذروته في الوجد والعمق عبر تحويلة مقام الرصد، فيقع المتلقي في حالة الطرب التأملي وخصوصاً في بداية الكوبليه (قلبي قمر أحمر / قلبي بستان)، هنا يشتغل مارسيل في توزيع الصوت ويعطي للصوت النسائي دوره في الدخول إلى عوالم الوجد والطرب، لكن بعد ذلك يأتي دور الكورس وصوت مارسيل الجهوري ليقول وبقوة فائقة: (شفتاي سماء تمطر ناراً حيناً حباً أحيان)، ويعطي مارسيل هنا دورا لتداخل الأصوات وانعطافاتها لتتوحد في العودة إلى المقدمة الأساسية والثيمة الرئيسية (في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي).

يذكر أن الكثير من القصائد التي كتبها سميح القاسم اشتغل عليها أغلب الموسيقيين وقدموها كطلقات شعرية وغنائية شكلت هوية الموسيقا والغناء الملتزم، وقد غنت مجموعة الفرق الوطنية الفلسطينية الكثير من القصائد كفرقة ليالي العاشقين وفرقة بيسان وغيرها من الفرق الوطنية العربية، إذ وجدت هذه الفرق في قصائد سميح القاسم التعبير الواضح عن فكرة الصمود والمقاومة في وجه الاحتلال الصهيوني.

رحل سميح القاسم في هذه الأيام وترك مجموعة من الطلقات والقصائد التي ستفتح آفاقا جديدة للكثير من الموسيقيين والملحنين للاشتغال عليها من جديد.

العدد 1105 - 01/5/2024